يتزايد الإقبال على دور العجزة في المغرب، إقبال يرافقه تصاعد النقاش والانقسام في مواقف الشباب بهذا الخصوص بين من يعتبر ذلك مخالفا لتعاليم الإسلام، ومن يعتبره حلا لمشاكل اجتماعية. والخبراء يرصدون انقساما في آراء الشباب.
في إحدى زوايا حديقة "المركز الاجتماعي للمسنين" بالرباط، تجلس"زهرة" (إسم مستعار) سيدة في عقدها التاسع فوق كرسيها المتحرك، وجهها يختصر حكايتها، استقبلتنا كباقي رفاقها بابتسامة منهكة لا تخلو من ترحيب بالضيوف. قبل سنوات اضطرت هذه السيدة إلى أن تطلب من السلطات الالتحاق بمركز اجتماعي بعدما تركت البيت لحفيداتها من ابنتها الراحلة والوحيدة، لتنتقل بعدها إلى هذا المركز بمجرد افتتاحه. تستعرض قصتها بأسى وتقول"اضطررت للخروج بعدما تزوجت حفيداتي من ابنتي الوحيدة المتوفاة برجال يعودون كل ليلة للبيت سكارى ولا يحترمونني". ولا تأسف "زهرة" على ما تركته خلفها لأنها تتلقى هنا حسبما تقول كلما تحتاجه من عناية وأكل وشرب وتطبيب..
آراء الشباب المغربي منقسمة إزاء كيفية رعاية المسنين
ثقافة جديدة
لكن "مليكة" (إسم مستعار) لا تبدو بنفس ارتياح رفيقتها رغم رضاها على الشروط "الجيدة" التي يوفرها المركز، قالت لنا بداية إنه ليس لها أولاد، واضافت أنها بالأحرى "تعتبر" أن لا أولاد لها، "لو كان لي فعلا أولاد لما تركوني هنا". قبل عام لجأت هذه السيدة إلى هذا المركز بعدما تخلى عنها زوجها وطردها من البيت ولان ابنها الوحيد عاطل عن العمل فلا معيل لهذه السيدة، "لقد أغلقت كل الأبواب في وجهي، وابني لا يعلم عني شيئا. أخجل حتى من أن أقول إني أقطن في هذا المكان، وإذا اكتشف ابني الأمر فسيقلتني دون شك لأن ذلك سيجلب له الخزي". ولـ"مليكة" ابن آخر بالتبني يعيش خارج المغرب، قالت إنه توقف عن مساعدتها ماديا بعدما اكتشف أنها تحكي للصحافة عن قصتها."هذا الجيل صعب جدا، ولا أحد منهم يرضى أن يعلم الناس أنه أمه تعيش في خيرية" تقولها بأسى شديد.
الظروف التي يوفرها المركز لم يكن يتمتع بها معظم نزلائه لما كانوا مع أقربائهم، ومع ذلك فكل فرد منهم يحمل جرحا كبيرا وحزنا بسبب عدم تقبل فكرة التخلي عنهم من طرف من أفنوا حياتهم في رعايتهم إلى أن اشتد عودهم. وفتح ظهور دور المسنين في المغرب نقاشا كبيرا حول مدى نجاعتها والإقبال عليها في بلد مسلم، خاصة بين الشباب المغربي الذي يتأرجح بين التشبت بتعاليم الإسلام التي تحث على "الإحسان بالوالدين"، وقيم الحداثة المستمدة من الغرب، التي تعتمد على ليبرالية العلاقات الاجتماعية وعدم التقيد بالأسرة سواء بالنسبة للشباب أو المسنين.
بينما تقول نسرين شابة مغربية في عقدها الثاني إنها من المستحيل أن تقبل، مادامت على قيد الحياة، أن يعيش أحد والديها أو حتى جدها في دور للعجزة، أولا من حيث المبدأ لأنه لا يعقل أن يتخلى المرء على من قاموا بإنجابه وتعليمه ورعياته..."اعتقد أن هذا أكبر مظهر من مظاهر الأنانية ونكران الجميل، إذا أنكر المرء كل ما فعله والداه من أجله فهو لا يستحق تلك التضحيات كلها ويستحق أن يتعرض لنفس المصير".
رفض بسبب نظرة المجتمع
وتضيف الشابة خلال حديثها أن الإسلام يعني أيضا الإحسان إلى الوالدين والبر بهما وليس فقط أن نكون مسلمين بالإسم. وتتفادى الكثير من العائلات الشابة الإعلان عن أن أقربائها المسنين يعيشون في دور للعجزة لأن ذلك يتعارض مع الثقافة السائدة في المجتمع والقيم المستمدة من الدين الإسلامي، حيث يعرضهم لنظرة الناس لهم بأنهم جاحدون ويتخلون عن إعالة من قاموا بتنشئتهم.
احدى دور العجزة في الرباط
ويزداد الإقبال على دور المسنين في المغرب خاصة بالنسبة للجيل الحالي رغم القيود الثقافية، وذلك بسبب ضيق الوقت و تزايد الأعباء وعدم القدرة على التفرغ للمسنين. ويعتقد كمال، شاب مغربي في عقده الثالث أن هذا "النفاق الإجتماعي" الذي يمارسه المغاربة فيما يتعلق بموضوع دور العجزة غير مفهوم، فهم إما أنهم يتكلفون بإعالة آبائهم العاجزين ليس إكراما لهم بل لتفادي نظرة الناس السلبية، وإما أنهم يأخذونهم إلى دور للعجزة مع إخفاء ذلك عن محيطهم و كأن الأمر يتعلق بجريمة.
ويضيف كمال خلال حديثه أنه مبدئيا مع الحل الذي يرضي المسنين "فإذا كان العيش في دور للعجزة أكثر أريحية من البقاء مع الأسرة، فما المانع في أن يذهبوا إليها؟". يعتقد يوسف أن على الشباب التحلي بالجرأة لمناقشة الموضوع وتقبل هذه الفكرة التي لم تعد من المواضيع المحرمة.
انقسام في آراء الشباب
اسماعيل منقاري باحث اجتماعي مغربي
أما كريم، 25 عاما فيعتقد أن دور العجزة و إن كانت تتناقض مع مبادئ الإسلام والقيم الأخلاقية، فهي في النهاية حل لمشاكل اجتماعية، ويضيف "أنا أفضل أن أرى عجوزا في دار للمسنين على أن أراه مشردا في الشارع، هذه المراكز أيضا تعبر عن التكافل الاجتماعي". ويعتقد المحلل الإجتماعي اسماعيل منقاري أن هناك عوامل تجعل الشباب المغربي ينقسم إلى موقفين فيما يتعلق بهذا الموضوع، الأول يرى "أن الرمي بالمسنين إلى دور العجزة في السياق الإجتماعي والثقافي المغربي هو بكل المقاييس جحود لكل الخدمات و المجهودات التي أسدتها هذه الفئة طوال حياتها النشيطة للمجتمع، وهنا تكون العناية بها داخل حضن الأسرة من الناحية الأخلاقية أقل مكافأة لها".
أما الموقف الثاني فهو مكون في غالبيته حسب منقاري من فئات "متشبعة بالأفكار الغربية في هذا الخصوص"، من منطلق أن الحياة المعاصرة وما تفرضه من متطلبات على الأسر الحديثة تفرض العناية بالمسنين والعجزة تكريما لهم لما أسدوه من خدمات للأسرة والمجتمع، لكن في غياب القدرة الظرفية لأبنائهم، "يتوجب اللجوء إلى من يقوم مقامهم بهذا الدور كمبدأ تثاقفي(تلاقح ثقافي) مستمد من الحياة الغربية يقضي بأن لكل واحد الحق في أن يعيش حياته لا حياة الآخرين". ويضيف الخبير الاجتماعي أن هؤلاء الشباب يعتبرون أن مؤسسات "دور العجزة" من شأنها أن تلعب دور الحاضنة لأشخاص في حالة فقدان استقلالية الفعل والحركة، بالإضافة إلى كون هذه العينة تجد في هذه المؤسسة كل الخدمات الخاصة المناسبة لاحتياجاتها.
سهام أشطو- الرباط