عيطت عيطة حنينه...فيقات من كان نايم
ناضوا قلوب المحنة... ورقدوا قلوب لبهايم
سيدي عبد الرحمن المجذوب
النقد حق..النقد ضرورة
تبدو عملية إخضاع المريد إلى قواعد المعقول والمنقول من أصعب المهام وأخطرها. وإخراجه من تحت جبّة الشّيخ وإخضاعه عنوة للفطام العقلاني، مهمّة خطرة. فقد يعدّ تذكيرهم بالله خارج رقابة الشيخ من باب خيانة المريد للشيخ. فلن يأذن لهم في معرفة صواب لم يمض عليه يراعه، ولن يطلق سراحهم وإن شاخوا وارتقوا. فعلم نفس المريد هو نفسه علم نفس الطّفل. فلا تحسبنّ المهمة سهلة، لأنّ جهل المريد يختلف عن سائر صنوف الجهل البسيط، بل هو من جنس المركّب، يتعاطى به المريد مع المعرفة والحقائق بلغة النفير والتحشيد والظّاهر والتّسطيح. والحقّ أنه لا تستقيم دنيا الفكر ولا تنمو المعاني وتزدهر إلاّ إذا أخذت بأسباب التّقدم المعرفي التي تقع في مقدّمتها فريضة النقد. وحق الاختلاف لا يتوقّف على منحة المختلف ومنّة من يقف على الضّفة الأخرى من النقاش. فقد رأينا أنّ المريد لا زال بدائيّا في تصوّر فلسفة الاختلاف وأخلاقه. وهو وإن كان يتمثّل ثقافتنا في الاختلاف ويتهجّى فلسفتنا في الاعتراف بالآخر أحيانا يستعمل ألفاظنا نفسها ضدّنا، إلاّ أنّه يقيم ذلك على فكر قديم ومربض ثقافة أنعامية لا زالت تنخر لاوعي الجماعة. وذلك من قبيل أن يقول بعضهم في كلّ تصدير أخلاقوي كاذب بأنّ الطرف الآخر له حقّ الاختلاف. وكأنّ هذا الحقّ منّة من أبيه علينا. بل رغما عن المريد وشيخه، هو حقّ أكرمنا به الله ولا نامت أعين المريد. وهذا يعني أنه لم يرق بعد إلى مدارك الفهم، حيث إن قاعدة الاستواء التّواصلي تمنح هذا الحق بالسّوية للطرفين معا وليس منّة طرف على آخر. أو تصوير البعض أن حق الآخر في الاختلاف هو تماما كحقّه في الاختلاء أو ما شابه من عبارات تنزل حقّ الاختلاف الفكري إلى حقّ الاختلاء في الاستقباح والنفور الباطني؛ تؤكّد أن ثقافة الاختلاف جديدة على هذه البيئة المتطرفة والظّلامية " المتسيّفة حداثيا" والمستبدّة " المتسيّفة ديمقراطيا" والتي لم تقطع جذورها مع فكر الظّلام حتى وهي تتمثّل لغة الجديد وتدلّس على المتلقّي بأنّها تنتمي إلى عصر الحديث بالمصطلح لا بالاقتناع. ولئن كان هناك من ثمرة لنقدنا خطاب السيد عبد السلام ياسين، التي سقناها عفو الخاطر حول أفكاره ومواقفه السياسية/اللاّسياسية، التربوية/ اللاّتربوية، فهي كونها أسقطت ورقة التوت عن مظاهر الأخلاقوية الزّائفة لجماعة ما فتئت تتغنّى بأنشودة التربية، بعد أن كشفت عن مخبوء الجماعة، فإذا بالباطن يحفل بنزعات الاستئصال الوحشي والطائفية الرعناء والأحقاد السوداء . ولا يحسبنّ المريد أنه انتصر في الميدان باللّجاج الطفولي، فلقد بلغنا هدفنا إذ أخرجنا كلّ هسهسة راجت في كواليس الجماعة وجعلنا النفوس المريضة في جيتو الجماعة الياسينية تخرج خبائثها. وليس هناك دليل أسدّ من أن ترى أهل الرقائق والتربية يتهاوون في لغة الشّوارع والثّقافة الزّقاقية. كنّا بالأمس نحسب أن ليالي الذّكر والنصيحة من شأنها أن تهذّب الطبائع المتوحّشة وتزيل آثار جاهلية القول. لكن هذا لم نره، بقدر ما رأينا نقيضه. وهذا للإنصاف موقف بعض أشقيائهم وليس موقف عام. لذا أفضّل أن أخصّصه بعنوان المريد الشّقيّ. وطبيعي أن لا يقبل المريد الشّقيّ نقدنا لشّيخه لأنه يجد نفسه معنيّا بالدّفاع عن كلّ كبيرة وصغيرة صدرت عن الشّيخ، ليس التماسا للتّرقي الروحي ولكن بحثا عن حظوة عند الروكي وحلبا يحلبه اليوم له شطره غدا. في نوع من المريدية المزدوجة. مريد للشيخ ياسين داخل الجماعة ومريد للقرضاوي في الاتحاد العالمي. وطبيعي أن لا يرضى عنك المريد وسوف يخفي حقده خلف تواضع المرائي أو خلف شكل من الأخلاقوية الهجينة والفهلوة البليدة. فقد تكلّف المريد وأطنب وهو يدخل موضوعه بمقدّمة ملؤها الحشو ومضغ الكلام عساه يقنعنا ببديهي؛ أي الرّد على من خالف. فهو حائر حيرة من لم تسعفه تربية الجماعة بين تواضع المرائي وكبرياء من يردّ على الإجرامي بتسامي. مقدّمة تفيض مفارقات وأغلاط وقفزات وقفشات، حيث يذكّرنا المريد بأن ما تراكم من وسائل تدبير الخلاف اليوم هو أفضل من الماضي. لكنه ينسى مقدّمته الأولى فينتهكها بالقول أن الأنبياء سبق وراكموا في هذا الحقل. فقد فات المريد الذي رام الجدل والدّفاع عن مذهبيته الصغرى بوسائل غارقة في التمذهب والطائفية والهمز واللمز ، أنّ تاريخنا المجيد هو مسرح للتّعصّب وتخلّف وسائل تدبير الاختلاف وهشاشة في أخلاقيات الحوار. يقول المريد بعد أن علّمهم الشيخ كيف يحسبون طغيانهم الروحي نبويّا: "فالسياق القرآني كان يقتضي مقابلة العمل بالعمل لا العمل بالإجرام ،وقدر النبي كان يتطلب ألا يسمي عمله إجراما ولكنها المبالغة النبوية في التواضع والتودد إلى الخصم وطمأنته بأن الحوار معه يتم من منطلق الندية لا الأستاذية، وفي السعي إلى إيجاد مساحات مشتركة للتفاهم". ويصّعد من هذا الكلام هوى الفرعونية المبطّنة بتواضع كاذب. فضلا عن أنّه يحدّثنا ببضاعتنا في ثقافة الحوار كما لو أنّها بضاعة مدرسته التي ألفت منغلق التنزيل المشيخي للحقيقة بعد أن تزقّ زقّا في ذهن المريد. وها هو يخطئ التاريخ ويجبن أن يصدح بالحقيقة وهو يرى أن الأمر بدأ بعد الانقلاب على الحكم الرشيد بعد أن تحكّمت العصبيات الأسرية وما إليها من أوصاف حفظها المريد ملفّقة عمن تحدّثوا عنها وأسهبوا. فقد يصعب على من يزعم التجديد والجرأة على قول الحقيقة أن يعترف بأنّ داء العصبية لم يخل منه زمان إسلامي قط. وبأنّ العصبية لازمت الحكومة الإسلامية منذ التحاق الرسول (ص) بالرفيق الأعلى وليس فقط بعد الحكم الراشد. فها هي السيرة والتّاريخ تؤكّد أن حكم الرّاشدين لم ينج هو الآخر من خلاف. وراجع لتجد أنّ أوّل مؤتمر لتعيين الخليفة شهد منكر العصبيات والغلب. فلقد اقتتل القوم في سقيفة بني ساعدة، هذا يقول منّا أمير ومنكم أمير وذاك يدوس على المعارض سعد بن عبادة ويقول قتله الله. وذاك يقول أنه عذيقها المدقّق وآخر يرفع سيفه قبل أن تدوسه الأقدام.لا يمتلك الشيخ ولا المريد الجرأة للاعتراف بهذه الحقيقة الساطعة كالشمس في رائعة تاريخنا بواقعية يستقطرونها فقط عند الضّرورة. أما الحديث عن آفة التراث ومنزلقاته فلا حاجة للإطناب.ولقد أدركنا من تلك الآفات ما خفي معظمه. ولن أناقش الشيخ ولا مريديه هنا في مشروع الخلافة على منهاج النّبوة، فسوف نقدّم رأينا فيه في جولة خاصّة نعرّي فيها عن هشاشة المشروع الياسيني السياسي الذي بدؤوا يهربون منه هروب حمر مستوحشة فرّت من قسورة. كما سنظهر أنّهم حمّلوها بقدر ما حمّلها الزمزمي من مغالطات حتّى أنه استدلّ على مشروعية مأذونات وزارة التجهيز(لكريما) بسنّة الخلفاء الرّاشدين. لا فارق في تحميل الخلافة الراشدة ما لم تحتمله، ياسينيّا وزمزميّا.
النقد والجماعة عدوّان
مهما تمسرح المريد الشّقي وتمثّل لغة الحوار والتسامح الكاذب ، فإنّ الآخر بالنّسبة إلى الجماعة هو الجحيم. وينبئك ذلك من خلال ما انفتحت عليه مناقير كتاكيت العدل والإحسان وهم يكذبون على النّاس لما اعتبروا أنّ سبب نقدي لهم هو موقفهم من سوريا. أولا يستحي هؤلاء أن يخلطوا بين السبق واللّحوق التّاريخيين؟ ألست ابتدأت ذلك قبل أحداث سوريا بكثير. ثم لا يكاد شقي من أشقيائهم يناقش ما ذكرت إلاّ بعد أن يضع بين يديه ورد طائفي يسيئ فيه إلى عقائد قسم وافر من الأمة أدت ما عليها بينما لا يزال شيخ القوم قاعدا ينتظر غير ذات الشّوكة. هل يحسن أيّ من هؤلاء القومتيين أن يناقش من دون أن يدغدغ القارئ بألفاظ تهييجية يختلط فيها الحابل بالنابل. فطائفيتي لم تظهر للمريدين إلاّ بعد أن انتقدت شيخهم المفدّى. ولكنهم كم كانوا يستأنسون بنقدي لأغيارهم.عدنا إلى الاختزال مرّة أخرى. لقد اعتادت الجماعة على التّلقي وليس الحوار. فالحوار دخيل وناذر في منهاج تربوي تتنزّل فيه الحقائق من رأس الشيخ إلى أخمص مريديه. ويا ما أناس طردوا من الجماعة لإظهارهم اختلافا مع الشّيخ ياسين. فهي ترسل خطابها إرسالا عموديا يتنزّل فوق الرؤوس ولا يخلق مساحة أفقية تستدعي قدرا من التّواصل السّويّ والفكر النقدي الجذري.وفي مثل هذه الحالة تصبح العملية النقدية صعبة إن لم نقل مستحيلة. فالمريد الذي لم يعوّد نفسه على مناقشة الشيخ لن يتقبل خضوع شيخه للنقد والتشريح. فهو لا يكاد يبصر العالم إلاّ من خلال شيخه. ثم سرعان ما يفرض علينا أن نعامل شيخه معاملة المريد. بل لا يكاد يرى النقد للشيخ إلاّ مؤامرة كونية أو مخزنية أو سوء فهم أو عدم إلمام بأدبيات الجماعة أو تحريضا وتشويها. وكلّ شيء وارد هنا سوى أن يكون الدّافع جزافي والغاية قاصدة والباعث مجرّد. إنّ المريد يعطي نفسه حقّ قراءة النوايا وتخيّل الأسباب واختزالها. لقد حال المريد بيني وبين شيخه ، فتطوّع بإذن منه وتفويض أو حتى تملّقا وطمعا في الترقي في سلم المريدية ليجيب عن تساؤلاتي عبثا. ذلك لأنه وإن خدع القراء بأنه سيعتمد المنطق لكنه اختار منطق الدفاع وعاش داخل هواجسه يقدم مثلا عن بؤس الجدل ومفارقاته.فسمّى ما قلته أوهاما مقابل واقع لا يدركه إلاّ المريد. فهم وحدهم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل كتاب الشيخ فيما غيرهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة.ومع أن مريدي الشيخ ظلوا عقودا بمثابة مقلدين وعوام يتلقون المعرفة من شيخهم من أخطر التعاليم إلى أحقرها حتى الخراءة، فإنّهم اليوم يكفّرون عن سنوات من السبات المعرفي والوحشة الفكرية، وبدل أن ينتظروا قليلا عسى أن تتمكّن منهم دربة التفكير ويستأنسوا بالعقل والمعقول ، باتوا يتقافزون من غصن إلى آخر وليس في جعبتهم من رصيد العقلانية سوى ضجيج جدلي وزقزقة العصافير، بينما ثمة في تراث العدلاويين من الاختلال المعرفي والهشاشة الروحية ما يتطلب ثورة حاسمة، يعيقها المريدون المتحذلقون أو حديثوا العهد بصناعة القول.يحيلني المريد الشّقي إلى كل نصوص الشيخ كما لو أن الأمر يتعلق بقراءة وصفية لمنهجه وليس الأمر يتعلق بحالة من الاستشهاد فيما كل ما ذكرناه ينطلق من استيعاب لخطابه منذ كان يسطر ما يسطر في مجلة الجماعة.يظن المريد أن الكاتب مر مرور الكرام على هذا المسطور ولا يعلم أن الكاتب يراقبه منذ عقود.وينسى المريد أن الكاتب شاهد على الأحداث وفاعل فيها منفعل بها ولا يتوقف فهمه وتجربته أن يقرأ كراسا هنا أو كنّاشا هناك. ولعله من الغريب أن يأتي مريدون حدثاء فيحيلونك على رسائل وكتب قرأناها للشيخ قبل انخراطهم في سلك المريدية.إن نصوص الشيخ ياسين متوتّرة متناقضة لأسباب يتعلّق بعضها بأنّه يتغيّر في آرائه من دون إعلان مراجعات مما يجعل المريد يقرأ المتناقضات كمتشابهات يقرأ بعضها في بعض. كما أنّ الشيخ يلتقط الإشارات ، فهو يتحدّث سابقا عن الجاهلية واليهودية العالمية مثلما كان يفعل سائر الاسلاميون لكنه اليوم يفرمل حديثه ويلوذ بمجازات أخرى ويبعث برسائل إلى هذه الدوائر نفسها على حساب الموقف. إن الشيخ إذ يغيّر من أفكاره دون أن يعلن مراجعاته يكون خائنا لأمانة العلم والموقف قدر خيانته لمريديه المساكين.لقد صعّب علي المريد المأمورية لأنني أريد جوابا من شيخ لا أدري ما دوره إن لم يكن مطالبا بالإيضاح. وهل هو منشغل حقّا في كبير أم حال بيننا وجوابه الإشراقي استجمامات واصطيافات وكمون يراد منه غيبة يتضخّم بها حضوره الأسطوري. إن الشيخ ياسين يخشى من الواقع ولا يملك الشجاعة أن ينزل إلى الميدان أو يدخل في النّقاش العمومي أفقيا وليس عموديا. ففي مثل هذا تكون قيامة الجماعة لا قومتها. ومن هاهنا وجب البدء ، حيث إنّ أدنى تحليل لفاحش الرّدود يؤكّد أنّنا أمام طريقة أفلست في المعقول وهزلت في المنقول وتدانت في التربية، ما يؤكّد على أنّ الأمر تعدّى شطحة الشيخ وكبرياءه إلى زقزقة المريد الشّقي وجهالاته. لم تتميّز ردود المريدين عن سواهم من حيث التبييت وسوء العبارة والتدليس والحكم على النوايا والإسقاط وقلّة الحيا. إنها مواقف وردود أفعال لا يتجلّى فيها لا عدل ولا إحسان. فالمنهاج هاهنا لانبويّ والمواقف هنا عاطفية غير علمية مهما تترّس مريدوها بأدلّة ليس لها من أهمية برهانية سوى التحشيد الفارغ والممل. وكأنّ لسان حال المريد المربّى الفاسد (من الكونفيتور الفاسد وليس من التربية) مع المختلف: (قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل). ومع ذلك ثمة ما يدفعنا لإبراء ذمّتنا في نقد فكر هذه الجماعة بعد أن طال نصحنا لها بأن تطلق سراح الشّباب كي يلتقوا في دائرة الفعل الإيجابي بالمشاركة السياسية أو المعارضة السياسية الواضحة أو للارتقاء إلى الله من دون تشويش من شيخ متسلّط أو مريد متنطّع. فلقد ساعدتنا قفشات المريد اللاّأخلاقية لكي نزداد يقينا في النهاية السّيئة لهذا التّجمع الذي بات يشبه عشّ الزنانير. كما لنزداد وضوحا في نقد هذه الطريقة والوقوف عند ما نراه غير صحيح من نهجها.فكيف لنهج خرافي أن يتحلّى بالبرهان.ولا غاية لهذا النقد غير جبر المعاند على المراجعة، مع إصرارنا على حقّها من دون منّة منّا ولا سلطان، في الاختيار وفي الجنون والانزواء ما لم يتحوّل انزواؤها إلى شقاء يشوّه سمعة الإسلام التي نحن مأمورون بالدّفاع عن معقوليتها وحقائقها قدر الوسع باجتهاد قد يخطئ قبل أن يصيب وليس وحيا يوحى كما يفعل شيخ الطريقة الروكية. وكذا لاعتقادي الرّاسخ بأن داخل هذه الجماعة يوجد شباب أسير لهذه الخدعة الروحية الكبرى وجب الأخذ بأيديهم وتمكينهم من ممارسة حرّيتهم الحقيقية. فلا شكّ في ما يقومون به ابتغاء مرضاة الله لا أخالفهم في ذلك وهم فيه محقّون. ولكن الزّيغ الذي عرض على الجماعة لا يتعلّق بهذا الجانب أو ذاك. فلقد هجر هذه الجماعة رجال منها كانوا موقع تقدير لم يكفروا ولم يرتدّوا عن الإسلام بل فقط وفقط أنهم كسروا قيد الهيمنة الروكية وطلبوا الحرّية في الدين والعقل خارج هذا المأتم الجماعي العدمي. وإن كان الشيخ والمريد قد أعطى لنفسه حقّ ومشروعية النّصح ، فله ولمريديه أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم للنّصح بدل أن يفتحوا مناقرهم للجدل ولا تأخذهم العزّة بالإثم ولا يطغوا في الميزان. فالشيخ ينصح الناس والملوك والإنس والجن، كما سموا مجالسهم بمجالس النصيحة، لكنّهم لا يستقبلون النصيحة إلاّ معاندين. لقد كنت آخر من ينتقد هذه الجماعة وليس أوّلها. بل وكنت عند مريديها على شيء حينما كنت أجامل طريقتها، لكن ما أن انتقدتها حتى أصبحت في عداد:" ليسوا على شيء".فالجماعة لها معيار في هذه الشيئية والشّأنية: أن تكون عبدا منكوس الرّأس أمام هذا الطغيان الياسيني أو أنت جاهل ولاأخلاقي و"غير مربّي" ومخزني... أسطوانة ركيكة وبليدة توجه ضدّ من يفكر أن ينتقد نهج الجماعة أيّا كان شأنه أو ملّته.إنّ فركة الأذن التي ينتظرها منّي بعض المريدين لا تتعلّق بالمحتوى، لأن لا محتوى فيمن كان رصيده من العلم هو التحشيد والتقليد و"التقزقيز" العلمي، بل سوف أركّز على المزايدات والدعاوي التي تكرّرت في أسلوبهم وأقوالهم للكشف عن تهافت المريد وجهالاته.بعد أن كان همّي نقد الشّيخ وشطحاته.وحينما كتبت عن فقه الروكي وسلوك الحلاّج ، قصدت شيخ طريقة العدل والإحسان لا أيّا من مريديه. ذلك لأنني حسبت أن حالة المريدية حينما تبرح مجال التربية الصوفية وتصبح موسّعة لتشمل الفكر والنّظر نكون أمام كارثة إنسانية وبيئية أيضا. فالمريد بطبعه منقاد مقلّد يتمحور عقله وقلبه حول الشيخ لا يبغي سواه. ولا يحتاج هذا القدر من التوصيف لكثير أدلّة كما يطالبنا المريد المولع بتحشيد العناوين ما خبر منها وما جهل. فالأمر ههنا في غاية الفجور والوضوح. أبى الشيخ إلاّ أن يفوّض المريد ليحاجج عنه بأدوات المقلّد. أيّ وضعية تلك إذن إن كنت مضطرا أن تجيب على المريد المفوّض لتحاجج الشيخ المنشغل عنّا ليس في كبير!؟ تفجّر المريد الذي طالما أحال على نواياي رجما بالغيب وإسقاطا، وليس على أفكاري، لم يأل جهدا لخلط الأوراق وضرب أخماس بأسداس لتحشيد كل عناصر الجدل الرخيص والتيهان بين عناوين لا يصحّ الوقوف عندها.لقد سعى بعض مريدي الطريقة العدلاوية أن يستعملوا كل العناوين والعناصر الخارجة عن موضوع النقاش لكي يخفوا حقيقة جرح مفتوح داخل جسم العدل والإحسان لم تعد الجماعة تملك له بلسما. فملخّص كلامهم أنّ نقد فكر الشيخ لا يعني سوى اللاّأخلاقية والحقد والطائفية والمخزنة والجهل والحمق والجنون وما شابه ذلك. هكذا ومن دون برهان أو مناسبة أفرغوا على كاتب السطور من تهمهم الرّخيصة واللاّأخلاقية ما يؤكّد على بؤس المخبر وسفه اللّسان.يقنع المريد نفسه بأنه يؤدّي دور الحكيم بينما بدا ناقد شيخه على شيء من الانفعال أضاع الصّواب. والحق أن الانفعال لا يحجب صوابا تظهره الحجج ويعزّزه البرهان. والمريد المتحاكم لا يظهر انفعاله لأسباب تربوية على منهج التدليس، لكن سمّه بادي وإشاراته الخبيثة يحجبها جبن التدليس بين نصوص هم منها بمنزلة اللصوص. إذ لا جديد ولا أثر لإبداع غير سطو مزمن على النصوص. وبحشو تدويخي يقنع المريد أنه بلغ في الإحاطة بالآخر مبلغا يشفع له في الأخذ والرّد. وكم يكثر عثار من أقنع نفسه بذاك وصفّق له مريدو المريد الذي بدا وكأنه ينازع الشيخ كبرياءه ويقاسمه من هم في المريدية مبتدئون. فمن أمضى للمريد على هذا إن كان قد أدهش هذا التحشيد من ليس دربا في منقول ومعقول المختلف؟ فالأعور في مملكة العميان ملك.إنّ للحقيقة طريقا غير طريق الجدال. فالجدال يضيّع ملامحها ويمسخها. والكيدية تختزلها وتحرفها. والبؤس المعرفي وإن توشّح بمنقول فكري وتلفيق نظري لن يغيّر شيئا مادام العناد أهلك العقول وأمات القلوب. وقد يكون مضيعة للوقت والجهد الدخول في مقارعة جدلية عقيمة همّها الدّفاع عن الشخص وتكريس داء الصّنمية. فلو كان المريد قد تأمّل ما انطوى عليه كلامنا في " في فقه الروكي وسلوك الحلاّج" لما وقع في الغلط والخطا. فالرغبة الجامحة في الدفاع عن معصومية الشيخ أعمت المريد عن دقائق ما ذكرنا.وأقدّر أنّ وضعية المريد العدلاوي هذه الأيّام بالغة الجرح وهي في مقام من اللاّمعقول العقلي والدّيني ما يجعلها لا تقارب إلاّ بمنطق السّحر والأسطورة، لأنّها تدرّب المريد على التّلقي بدل الحوار والتقليد بدل الاجتهاد وتعطيل العقل والنّظر مقابل التسليم والخضوع،والصّحبة بدل التّفرّد. أولى تلك المعضلات أنّ الممارسة النّظرية والفكرية دخيلة على الجماعة منذ كان مفكرها الأوحد هو شيخها فيما الباقي ناقل علم غير مجتهد فيه.ويتعذّر على المريد أن يرى شيخه وقد خضع للنقد كسائر بني آدم. فهو في قرارة نفسه معصوم عن الخطأ.للمريد الشّقي أذكّر، بأن ما من شيء نفّرني من بعض تجارب إخواننا سوى رسوخ الكيدية والمسمومية التي زادتها التّربية الفاشلة والانهزام أمام الواقع لتأخذ خطأ عنوانا أخلاقيا وتربويا. ظنّوا أنّها سمت للمؤمن وأخلاق ومروءة . كنت يومها باحثا عن العدل والثورة. وظننت أن في وسعي أن أقف عند العدل والإحسان على معنييهما. فأدركت أن العدل والثورة لا يستقيمان إلا على مدارك من الإقناع العقلانية والطمأنينة الروحية. خيبات أمل لا تعدّ ولا تحصى يوم كان الكثير من مريدي الشيخ اليوم نسيا منسيا ، أولئك الذين يتهمون من رام نقد طريقتهم جاهلا بنصوصهم قليل الخبرة والاطلاع في تجاربهم. اليوم أزداد بصيرة في هذا الحطام البالي لخطاب لا يريد أن يفيق. حينما كتبت ما كتبت عن شيخ الطريقة الياسينية بأسلوب لا أنكر أنه جاء على قسوة تمنيت لو لم يتمكّن منّي الانفعال لأصيغها صياغة أهدأ، وقبلها تمنّيت لو لم يختبر صبري بعض المريدين الذين صبرت على تبييتهم وتطاولهم وتحرّشهم بكاتب السطور بين الفينة والأخرى مما لا يعني عندي سوى ردّ الشّر من حيث أتى، كنت حينئذ أروم الإيجاز وأفترض من المريدين أنهم يحفظون دروسهم جيّدا ويستظهرون نصوص شيخهم ولا يتكاسلون، لكنني وجدتهم يمارسون بنصوص الشيخ تدليسا مهولا، يخفون ما طاب لهم ويظهرون ما شاءت لهم أهواؤهم. كما لو كانت قرآنا وليس نصا بشريا حتما سيجدون فيه اختلافا كثيرا. فالشيخ مؤلّف وأديب وبالغ القريحة والذكاء، حتى أنه وخلافا للحركات الإسلامية الأخرى، مارس الكتابة والتفكير حيث اكتفى نظراؤه بالخطابة والقيل. ويحسب له هذا كما تحسب له من الفكر ما لم نذكره لأننا لا نخالفه فيه. فنحن لا نعتبر الشيخ ياسين شرّا أو سلبا كلّه لأنّ هذا لا نقوله على أي كائن من كائنات الدّنيا. بل نحن نتحدث عن جانب السّلب ونرجو منه أن يعود إلى الصّواب ويراجع كما يراجع غيره. لكن معضلة النص الياسيني أنه يتنزّل تنزيلا مقدّسا. لقد خانني التقييم مرّة أخرى وأنا أحسن الظّن بجماعة الشيخ ياسين حينما اعتقدت أنّ شواغلهم الصوفيولوجية قد أبعدتهم قليلا عن ذهنية الظاهرية والتسطيح والعبث. ومرارا تحدّثنا عن أن مشكلة هذا العقل الذي تساس به الجماعة ليس فقط لا يرى تخوم تدبير النفس والعقل والمدينة، بل وجدنا أنفسنا أمام فشل تربوي في الحقول الثلاثة. فللسهروردي قولة تلخّص ما هو عليه فكر العارف:" وكم أشرنا إليكم فلم تفهموا". لا أحد اليوم يستطيع في قطيع المريدية أن يبدّد عندي مجمل الشّبهات التي تحدّثت عن بعضها فيما أخر كثيرة لا أريد أن أثيرها اليوم. لكنّني أصبت بخيبة أمل كبرى ، لأنّ المريد يريد الجدل ولا يريد البرهان. وربما اختلطت عنده رسالة الجدل برسالة البرهان ورسالة الجدل بمعناه المنطقي بالجدل بمعناه المذموم شرعا، أي اللّجاج. وطبيعي أن تهتزّ فرائص المريد لأنه يريد الشيخ ولا يريدنا. فمنطقيا سينزلنا المريد منزلة عدوّه وإن كنت أشفقت على المريد ولمت الشيخ. وما كان للمريد أن يدبّج ردوده بتأصيل متكلّف لأهمية الحوار والرّد الأخلاقي في القرآن وهي صناعة منقولة من فكر مدرسة صال المريد وجال لكي يكشف لنا عمّا يدور داخلها من جدل: بضاعتنا ردّت إلينا. فالحوار حتمي والنقاش واجب مسلّم لا يحتاج إلى براهين. ليس من عادتي أن أردّ على المريد. ولئن فعلت ذلك على مضض فلكي أكشف للمريد أنّه فعل وما فعل. وبأنّه اختار لنفسه منهجا عقيما في البحث وأسلوبا مفارقا في الجدل. ولا أنوي هنا سوى وضع اليد على نزيف المعقول والمنقول لمريد وضع نصب عينيه الدّفاع عن شيخه حتى فقد الذّوق العلمي، فكان بدل أن يدافع عن شيخه سقط فوقه ليزيده غرقا. وعليه نمضي في بيان ملاحظاتنا التي سنعرض جانبا منها في الحلقات القادمة