كتب ـ محمد الحمامصي لا صلاة البتة أمام صور الإمام علي وهي لا تُعبد، لكن لها الحضور الطاغي بحيث أنها ما زالت محفورة في ذاكرة الأجيال. صدر للشاعر والأستاذ الجامعي شاكر لعيبي كتابه “تصاوير الإمام علي: مراجعها ودلالاتها التشكيلية” عن دار الريس في بيروت. الكتاب اعتبر حدثاً ثقافياً لسببين: الأول أنه يتكرّس لموضوعه بروح علمانية بعيدة عن أي نزوع ديني أو طقسي أو عقائدي، قبولاً أو رفضاً.
يذكر المؤلف أن الإيمان العقائدي بشان هذه الصور هو شأن شخصيّ سالت بسببه الكثير من الأحبار في الماضي والحاضر. ما يهتم به الكتاب هو الطبيعة التشكيلية والتاريخية والمغزى الجمالي لمجموعةٍ من الصور التي قدمت الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، على طول وعرض العالم العربي: في الفن الشعبي التونسيّ على الزجاج، وفي الفن الفطري السوري “أبو صبحي التيناوي “، وفي مثيله المصري بوفرة، كذلك في المغرب الأقصى، لكن وبشكل أخص في الجانب الشرقيّ من العالم العربي، لدى الشيعة في العراق ولبنان ومناطق كبيرة من الخليج العربي. ولا ننسى مناطق واسعة من القارة الآسيوية: في إيران وتركيا وأفغانستان وباكستان والهند وغيرها من البلدان الإسلامية. والسبب الثاني الذي اعتبر الكتاب بسببه حدثا هو جمالية إخراجه الذي طلع مزيناً بالصور الملونة وبحجم غير قياسي. مسعى مؤلف الكتاب يندرج في إطار مشروع فكري عريض ينحني على إعادة الاعتبار لما يعتبره البعض، عادة، مهملاً وغير ذي شأن، على الطفيف والصغير في الحياة وفي الثقافة. ومثلما انحنى شاكر لعيبي، شاعراً وباحثاً، في عدة أعمال أخرى على “الفن الإسلامي والمسيحية العربية” و”العمارة الذكورية” ها هو يقدِّم في هذا الكتاب، بروح الباحث الذي تحركه هواجس الشاعر ومغامراته المعرفية، دراسة هي الأولى من نوعها حول تصاوير الإمام علي بن أبي طالب، مستندة إلى بعض المراجع والمخطوطات المجهولة حتى الآن. يتكون الكتاب من ثماني مقاربات متماسكة، تخرج الواحدة من صلب الأخرى بطريقة عضوية، تنحني الأولى على الأصول البيزنطية للتصاوير المنسوبة لعلي بن أبي طالب، وعلى المنمنمات الإيرانية والتركية المتأخرة بوصفها أصلاً. بينما تطرح المقاربة الثانية سؤالا مقلقاً: هل يمثل بورتريه علي الشائع ملامح وجهه وتقاسيمه الحقيقية؟ وتقارب الثالثة بين تصاوير الإمام علي والفن والمسيحي، وتعود إلى العلاقات الداخلية بين تلك التصاوير وصور يوحنا المعمدان والسيد المسيح وفكرة الراعي الصالح، وتقارب بين صور أئمة الشيعة الإثني عشر وحواريي السيد المسيح، لتنتهي بمقاربة صور الإمام علي قاتل الأسد بالقديس جورج قاتل التنين. وتكتسب مقاربة لعيبي الرابعة المعنونة “التقاليد المشرقية ومثيلاتها المغربية في تمثيل الإمام علي” أهميتها من أنها تقارن صور الإمام علي في العالم المشرقي غير الشيعي: تركيا على وجه الخصوص، وترى إلى فكرة البطل علي المُرَحّلةَ إلى أبطال شعبيين آخرين في بلدان المغرب، وتدرس صورة علي بن أبي طالب بطلاً في التصوير الشعبي التونسي. ترتبط بهذا الفصل عضوياً المقاربة الخامسة التي يقيمها المؤلف لصور الأولياء السنة مع الأسد بوصفها ترحيلاً لصورة علي بن أبي طالب مع الأسد، مثل صور الشيخ الجيلاني في التصوير الشعبي المغربي وصورة الوليّ “سيدي رحّال” مع الأسد، وصورة الولي “الحاج بكتاش” مع الأسد في تركيا. وهو الأمر الذي يقود المؤلف إلى إلقاء نظرة على الرسامين الشعبيين في هذا المقام في مقاربته السادسة. وإذا ما انتقلنا إلى ما يسميه لعيبي بالمتعالقات البصرية، في مقاربته الثامنة، فلسوف نرى أنها ترتبط بشكل أو بآخر بتصاوير علي بن أبي طالب في مشرق دير العالم ومغربه مثل السيف ذي الفقار في المنمنمات الإسماعيلية، وكثافة تقديم بورتريهات الإمام علي في الرسم الإيراني المتأخر في العصر القجاري، والتقاليد الأيقونية المشتركة بين هذه التصاوير والتصوير المسيحي في دير مار بهنام في الموصل، والرؤية التصويرية التركية لواقعة الطف، والأسد المرسوم بالخط العربي رمزاً لعلي، وغيرها من المتعالقات. إحدى أهم الفرضيات التي يقدمها شاكر لعيبي في فصله السابع هي تلك التي يعتبر فيها هذه التصاوير أيقونات منزلية. ويذكر أن الأيقونة هي موضع تبجيل لأنها تموضع، بدءًا من نذرها، المؤمنين في “الحضور الحقيقي” لما هو سامٍ وربانيّ وروحيّ. وبالطبع تفرِّق الكنائس البيزنطية واللاتينية بين (عبادة) الأيقونة و(تبجيلها): الله وحده هو المعبود. لا يتعلق الأمر بصورةٍ أو برمز فقط إنما أيضا بأداة تجعل العلاقة مع العالم الروحي فاعلة وحقيقية. عندما يرى المسيحي القديسين في الأيقونة فمن المُفترض أن يحوز على رؤية أكثر اكتمالا لما يمكن أن يكون عليه الرب، وهذه هي وظيفتها بالضبط. ويصيف أن توصيف الأيقونة في المصادر المسيحية هو ذات “التمثيل البصري المعبّر عن العالم الروحي لدى الشيعة، سواء لجهة النموذج الأوليّ لتصاوير علي والأئمة، أو لطريقة إعادة إنتاجها ونسخها المتكررة، أو لجهة دورها كحام ونصير وشفيع، أو لجهة تبجيلها وليس عبادتها، أو لجهة كونها تذكيراً للمؤمنين الشيعة بجلالة الله الغائبة عن الباصرة عبر الدلالة المستخلصة من صورة الإمام المُبْصَرَة،”. ويمضي المؤلف إلى القول: “وكما الأيقونة التي لا توضع في الكنيسة فقط، إنما في المنزل بل في غرفة النوم الشخصية، فإن صورة الإمام علي تُعلَّق في منازل الشيعة في العراق وتركيا وإيران وشبه القارة الهندية. وبالمعنى المجازي المعاصر لكلمة أيقونة أي بوصفها نمطا تصويراً ثابتا محترَماً، غير دينيّ بالضرورة، مكرّرا ومُنـَمْذجَاً أسلوبيا ودلالياً كما هي صورة مارلين مونرو أو الكوكاكولا في الفن الشعبي الأوربي، فالأيقونة هي رديف للنموذج المثالي أو الأولي. وبهذه الدلالة بالضبط تستخدم أيضا لدى الشيعة. وبهذا الدلالة كذلك تنمحي عنها صفات الشبه أو الواقعية أو التاريخية (مثلما يمّحي ذلك كله في الأيقونة البيزنطية المقعّدة) وتندرج في إطار النموذج الثابت المبجّل المكرّر وحده. وكما ثمة تولّه واعٍ أو غير واع بصور أبطال السينما الممثـَّل لهم بوضعيات ثابتة فاتنة، ثمة تولّه بتلك الأيقونة من دون كثير من الاعتبارات الأخرى. إنها تحضر لهذا السبب في كل مكان لدى الشيعة: في المنزل والاحتفال الديني وفي السيارة وفي محفظة النقود وحمالة المفاتيح”. وينتهي المؤلف إلى الاستنتاج: “على أن المنزل ظلّ، منذ وقت بعيد، مكانا رئيسياً لتصاوير الإمام علي بن أبي طالب. لا صلاة البتة أمام صور الإمام علي وهي لا تُعبد، لكن لها الحضور الطاغي بحيث أنها ما زالت محفورة في ذاكرة أجيال من الرجال والنساء المتعِّودين على حضورها في البيت منذ طفولتهم الأولى. صورة الإمام علي المنزلية الحميمة مشوبة بمشاعر دينية وقداسة. إنها هنا لتبارِك المكانَ وتمنح اليقين. وهي جزء من الأثاث العائلي الفقير والبيوت المتواضعة.. حضورها الأيقوني طاغ ولا يسائله أحد: لقد غدت بداهة في الثقافة البصرية الشيعية، بل في حياتهم اليومية العائلية”.