أعجبتني كثيرا الجملة التي أنهى بها أسعد طه “نقطته الساخنة” عن الربيع العربي والمغرب، حين ترجى كل الفاعلين السياسيين المحليين أن يفعلوا ما بدا لهم، لكن أن يحافظوا على المغرب. ممتنون فعلا لأسعد ولطه و”لكاع السميات” لكننا نجد الأمر مليئا بالكثير من الاعتداد والغرور غير المقبولين. تحب المغرب يا سيدي؟ مرحبا بك فيه في كل وقت، لكنك بالتأكيد لن تحبه أكثر من أبنائه ولن تكون حريصا على “أمن البلد الوديع” مثلما أسميته في البرنامج أكثر من الوديعين الذين يحيون فيه.
وحقيقة “تقهرني”، وتصيبني بكل أنواع الحمى الممكن تخيلها، هاته القدرة التي يمتلكها بعض الصحافيين الأجانب (من إلباييس إلى الجزيرة مرورا بما شئتم من وسائل الإعلام) على التنظير لنا أحيانا في أكبر أمورنا وأكثرها أهمية، بعد أن يأتوا إلى المغرب لمدة أسبوع أو يقل، ويقرروا أنهم فهموا المعادلة المغربية كلها، وأنهم أصبحوا جاهزين لإعطائنا الوصفة السحرية للخروج من كل المشاكل التي يظهرونها في رسوماتهم البيانية التي لا يعرف لها زمان ولا مكان.
المغرب أعقد بكثير من أن تحل كل الإشكالات الواقعة فيه في أسبوع واحد، أو من خلال ساعة تلفزيونية عابرة. المغرب أعقد بكثير. ومع ذلك تحسب لأسعد ونقطته الساخنة أنه حاول الالتقاء بأكبر قدر ممكن من الفاعلين والمفعول بهم السياسيين في الوطن. الفاعلون، وسنضع في زمرتهم رئيس الحكومة طبعا لأنه أهم متدخل في برنامج الجزيرة، وسنضع أيضا صلاح الوديع، ومحمد الفيزازي باعتباره ممثلا لتيار ينمو اليوم في الساحة، وسنضع بعض القيادات السياسية التي كان ضروريا الإنصات إليها. المفعول بهم سنضع بوبكر الجامعي على رأسهم، وسنطرح على الناس سؤالا نريد الآن أن نعرف جوابه: هل توجد في العالم كله صفة إسمها صحافي معارض مثلما كتب برنامج “نقطة ساخنة” عن بوبكر ولد خالد حفيد بوشتى؟
الجواب هو بالتأكيد: لا.
لا وجود لمثل هذا الهراء إلا في وطننا. من الممكن أن تكون صحافيا ومنتميا لحزب أو طائفة سياسية معارضة، لكن حين يكتبون صفتك في التلفزيونات التي نتابعها في العالم الفسيح، يكتبون إما الصفة الأولى وإما الصفة الثانية. يستحيل أن تلتقي الصفتان لأن الصحافي مهمته تقتضي حين ممارسة الصحافة حيادا لا يمكن أن يتوفر له وهو يحمل الصفة الثانية. ومع ذلك لندع بوبكر “على خاطرو”، خصوصا وأنه كان ملح طعام الحلقة لأن عربيته لم تسعفه في الحديث فاختار لنا بعض الكلمات من الدارجة المغربية الجميلة، وقد اعتقدها عربية فقط لأنها تمر من الجزيرة، وأسمعنا بذلك عبارة “أكفس”، التي استعملها مرارا وتكرارا لكي يقصد بها أسوء، علما أن مشكلة الفرانكوفونية عند بعض نخبنا السياسية التي تريد الثورة على الوضع والنظام والأشياء القائمة هي مشكلة عويصة بالفعل وليست لغوية فقط بل هي فكرية أساسا تمنع هاته النخب من التفكير بنفس الطريقة التي يفكر بها الشعب.
ومع ذلك لم أر في “نقطة ساخنة” الإساءات التي قيل إن أسعد طه حملها معه معلبة في ذهنه إلى المغرب من الحالات المصرية والليبية والتونسية لكي يطبقها على النموذج المغربي. بل وحتى حين تحدث عن منعه من التصوير في طنجة، كان أسعد طه قريبا من عدم الفهم فقط وهو يقول إن “طنجة صارت من المدن الممنوعة لأنها من مدن الثورة”. الطنجاويون سيضحكون كثيرا من كلام الصحافي المصري، وسيتأكدون أنه لا يعرف شيئا عن مدينتهم. فكل ثورة الطنجاويين اليوم هي من أجل “كريف ديال الخبز” وضد الفساد الذي قتل مدينتهم، وضد المافيا التي عششت فيها، وهم لا يعتنقون الأفكار التي حاول أسعد أن يمررها بين ثنايا خطابه وهو يبتسم مستمعا لشباب العشرين من طنجة منذ أشهر عديدة ما أفقد الحلقة بريقها، خصوصا وقد تزامنت مع “فض الاشتباك”، وتقرير الحركة التقليص من وتيرة خروجها إلى الشارع.
في لحظة من اللحظات بدا لي برنامج أسعد طه، كما لو كان ببدايات متعددة، لكن دون موضوع رئيسي ودون خاتمة. في كل مرة يعود الرجل إلى التذكير بوصول الملك إلى الحكم، ثم يختار مسارا يريد الذهاب فيه، لكنه لا يجد إلا قلة قليلة من الناس قادرة على أن تتفاعل معه في الحديث، فيعود إلى نقطة الصفر، ويختار صورا وبداية جديدة. بنكيران كان مصرا على الحديث عن المسار ككل ورغبته الداخلية هي أن يشرح لأجنبي مايقع في المغربي، و”التعامل الخاص” الذي نتعامل به نحن مع كل شيء. بوبكر كان يريد أن يستعمل كلمة “الجمهورية” بأي ثمن ولو أقحمها إقحاما وسط كل الدارجة المخلطة بالعربية التي كان يتحدث بها. منار السليمي كان يهددنا بثورة قادمة غدا مع الثامنة صباحا، أحد برلمانيي الاستقلال _ ولا أذكر إسمه هنا _ كان يتحدث وهو متكئ على الأرائك معطيا الإحساس أنه غير معني بكل هذا. صلاح الوديع كان مصرا على أن يرسل الرسالة إلى من يعتقدون أن السماء معهم في السياسة، والآخرون مروا والسلام.
من بقي في الختام؟ بقيت أصوات المغرب كله. بقي الشعب. وحده لم ينصت إليه أسعد. لذلك قلنا بدءا أنه من المستحيل على صحافي أجنبي أن يتحدث عنا أو أن يفهمنا هكذا بين عشية وضحاها. مستحيل. عليك أن تكون ابن هذا المكان لكي تصنع نقطه الساخنة والباردة وكل شيء عنه وفيه، أما إذا كنت سائحا حاملا لحقيبتك اليدوية الصغيرة ومتجولا فقط في الأصقاع, فلن تدرك من كنه المكان أي شيء.
ومع ذلك، مرحبا في كل وقت.
لمختار لغزيويlarhzioui@gmail.com