.
لا يعقل أن تفرقنا الاختيارات السياسية والإيديولوجية والنقابية وتوحدنا الإضرابات
تعودنا، أيام الخميس والجمعة، على تقليد جديد دخل المشهد الإداري المغربي: إذا جرب أحدكم زيارة إحدى الجماعات المحلية أو المقاطعات للقيام ببعض الإجراءات الإدارية خلال هذين اليومين، فمن المحتمل جدا أن تكون هذه الإدارات في حالة إضراب. تصل الإدارة على الساعة الثامنة والنصف صباحا قصد القيام بإجراءاتك، والتوجه في ما بعد نحو مقر عملك. قد تكون طلبت بالأمس إذنا بالتأخير خصيصا لقضاء هذا الغرض الإداري. تنتظر قدوم الموظفين دون أي استغراب (لكن بالكثير من التأفف). تأخرهم متوقع، لأنهم نادرا ما يلتحقون بمقرات عملهم في الوقت المحدد. على الساعة التاسعة، ينتابك الشك. تسأل «المخزني» الواقف أمام الباب: «متى يصل الموظفون؟»؛ ليجيبك بلا مبالاة قاتلة: «لن يأتوا، إنهم في إضراب».
منذ عدة أشهر ومقاطعات وجماعات أجمل بلد في العالم تنظم إضراباتها أيام الخميس والجمعة. للأمانة، فقطاعات أخرى كثيرة أصيبت بالعدوى نفسها: الصحة والتعليم، والعدل...
علينا أن لا ننسى أن بلدا تنظم فيه الإضرابات بسبب وبدون سبب، بلد يخيف المستثمر الأجنبي أو غير الأجنبي. طبعا، فممارسة الإضراب حق وطني يُمَكّن المشتغلين في قطاع معين من الدفاع عن حقوقهم أو الاحتجاج ضد حيف يَطولهم. هذا أمر لا يمكن مناقشته بتاتا ولا إعادة النظر فيه. لقد ناضل الكثيرون لسنوات لتمكيننا من ممارسة هذا الحق، لكني أعتقد أيضا أن الإضراب يحتاج إلى تقنين جديد يضمن للمواطنين حقهم في الاحتجاج، لكنه يتجاوز أيضا هذه الفوضى والتسيب التي تتسبب فيها بعض الإضرابات غير المنظمة ولا المبررة ولا المعلن عنها.
أولا، علينا أن نعي بشكل جدي أن الإضراب هو آخر مرحلة قد نصل إليها. هناك بدءا مفاوضات يتم الاتفاق حولها وحوارات وتنازلات من جميع الأطراف، وحمل للشارات من طرف المحتجين، تعبيرا عن مواقفهم واحتجاجاتهم... وحين تقفل جميع الأبواب، حين لا يتم الوصول إلى حل اتفاقي، هنا يلجأ المعنيون بالأمر إلى الإضراب كحل أخير للمطالبة بحقوقهم. كيف يعقل أنه، وبينما المفاوضات جارية مع رب شركة أو مع الحكومة، يتم إقرار إضراب يشل قطاعا كاملا في البلد و/أو يوقف معاملات اقتصادية وأنشطة وتحركات ومعاملات؟ كيف يعقل رفض المفاوضات أحيانا والاستمرار في إضراب مفتوح لا نعرف أحيانا حتى نوعية المطالب فيه؟
من ناحية ثانية، فالعاملون في قطاع ما ينتمون في الأغلب إلى نقابات مختلفة. هل يعقل إذن أن تتفق، باستمرار، كل النقابات على الإضراب؟ في هذا الإطار، أخبرني أحد الأصدقاء بأنه فوجئ السنة الماضية برسالة توصل بها من إدارة المدرسة الفرنسية التي يدرس بها أبناؤه. الرسالة كانت تخبره أن النقابة الفلانية قررت تنظيم إضراب في تاريخ معين، وأن الأساتذة الواردة أسماؤهم في الرسالة، على اعتبار انتمائهم إلى تلك النقابة، لن يقدموا حصصهم التعليمية المبرمجة. لم يخض كل أساتذة المدرسة إضرابا دعت إليه نقابة واحدة. في أجمل بلد في العالم، تتم الأمور بشكل مختلف. هناك أشياء كثيرة تجعل الموظفين ومستخدمي القطاع الخاص ينتمون إلى نقابة بدل أخرى، وهناك انتماءات سياسية تخضع لها جل النقابات، لكن الإضرابات توحد الجميع. كيف يعقل أن تفرقنا الاختيارات السياسية والإيديولوجية والنقابية، وتوحدنا الإضرابات؟ من الوارد طبعا أن تقع هذه الاتفاقات الشاملة لكل النقابات بين الفينة والأخرى، وفي حال مفاوضات تمس قضايا كبرى في قطاع معين، لكنه ليس من المقبول منطقيا أن تتفق كل النقابات في قطاع معين، وبشكل مستمر؛ وإلا فما جدوى التعدد النقابي؟
من ناحية أخرى، أن يضرب الموظف أو المستخدم معناه أن يأتي إلى مقر عمله، وأن لا يؤدي مهامه احتجاجا على وضعية يراها مجحفة. أن نقبع ببيوتنا، معناه أننا في إجازة ولسنا في إضراب. هذا ربما ما يفسر إضرابات الخميس والجمعة التي، مع «الويكاند» تمكن البعض من الاستفادة من عطلة طويلة ومدفوعة الأجر.
من السهل أن نمارس نوعا من الشعبوية ونكتفي بالقول إن الإضراب حق مشروع. لكن، هناك نوع من الوعي بالصالح العام علينا الحفاظ عليه، ونحن ندافع عن حقوقنا. منذ عدة سنوات، وبسبب إضرابات متتالية، كنت ممن دافعوا عن إمكانية اقتطاع فترات الإضراب من الأجور، وهو أمر يتم في مجموعة من الدول التي تسبقنا بسنوات ضوئية في المجال الديمقراطي. الإضراب حق، أي نعم. لكن، لنتحمل مسؤولية قناعاتنا ومطالبنا، بما في ذلك على المستوى المادي... لا يمكننا أن نوقف مصالح المواطنين وسير الحياة في بلد بأسره، إلى أجل غير محدد، وبشكل لا يتحمل مسؤوليته إلا الآخرون، دون أن تكون لذلك تبعات علينا.
حكومات كثيرة حاولت الحفاظ على السلم الاجتماعي، ولم تقوَ على المس بقانون الإضراب. لقد حان الوقت ربما لكي نتحلّى بالمسؤولية والشجاعة السياسيتين لكي نوقف هذا الاستهتار بحقوق مواطنين يدفعون لوحدهم ثمن إضرابات لا منتهية، باسم الحرية والديمقراطية.
بقلم : سناء العاجي, كاتبة