يوسف غيشان
كنت -قبل سنوات- شعرت بأن المدرسة المصرية الساخرة قد نضبت ، بعد أن شاخ الساخرون الأوائل وشاخت كتاباتهم وتحولت الى مجرد قفشات اجتماعية ،الى أن تعرفت -بالصدفة- كتابات جلال عامر في موقع إلكتروني يدعى(الحوار المتمدن)، ومن ذلك الوقت وأنا أعشق هذا الرجل؛ الذي أعاد الاعتبار لمصر في الحق الوراثي بالقيادة التاريحية للساخرين العرب مع زميله الرائع بلال فضل.
ولم أصدم حينما قرأت هذا الأسبوع بأن الرجل قد مات من الزعل ....نعم، من الزعل والغضب والحنق ، لأنه شارك في مظاهرة في الإسكندرية ضد المجلس العسكري ، لكنّ المشاركين في المظاهرة اشتبكوا مع مشاركين في مظاهرة تؤيد المجلس العسكرى...... فأنهار قلب الساخر جلال عامر وهو يرى هذا الصدام بين الإخوة ، حيث تحل العصا محل الكلمة، والبلطة محل الحوار.
ثم انهار قلب الساخر تماما في المستشفى الى أن توفي عن ستين عاما فقط لا غير، وكانت آخر كلماته، وهو يصرخ في المستشفى مستنكرا: (المصريين بيقتلوا بعض؟؟؟؟) .
جلال عامر كان نسيجَ وحدةٍ ، وهو أحد أبطال العبور عام 1973 ، ذلك النصر الكبير الذي اهدره أنور السادات تحت الخيمة (101)، وهو اكثر كاتب ساخر كان ينتقد نظام حسني مبارك ، ولم يهادنه للحظة واحدة ، لذلك يمكن أن نفهم هذا الانهيار النفسي الكبير الذي تعرض له نتيجة اقتتال المصريين بعد زوال النظام شكليا.
جلال عامر مشهور بعباراته القصيرة المؤثرة الراقصة ، كان مثل محمد علي كلاي على الحلبة (يرقص كالفراشة ويلدغ كالنحلة)،وهي عبارات متداولة كثيرا لدرجة أنه قال مازحا (أكثر ما يتعرض للسرقة في مصر ، الحان بليغ حمدي وكلمات جلال عامر ) وقد حاولت تقليد هذا الأسلوب، لكني لم انجح بكتابة اكثر من عشرين او اكثر قليلا من الكلمات المكثفة ثم اعتزلت ، لأنها متعبة جدا ، بينما كان جلال يكتب اسبوعيا ما يزيد عن عشر مقولات تنتشر كالنار في الهشيم.
ومن يعود لكتاباته يجد أنه ابتكر اساليب خاصة به في الكتابة الساخرة ،معظمها صعب التقليد، لذلك كان انهياره في غرفة العمليات ، ليس مجرد وفاة ساخر ، بل كان انهيار مدرسة ساخر بأسرها، وبقضها وقضيضها، على رؤوس تلاميذها وروادها.
وفاة جلال عامر هي طعنة في قلب الساخرين ، لكنها في ذات الوقت نيشانٌ على صدورهم ، وردٌ قوي ومباشرٌ على اولئك الذين يعتبروننا مجرد مضحكين وأصحاب قفشات ، وها هو قلب الساخر المنفجر غضبا يؤكد لهم أن قلب الساخر ، هو وردة ذات عبير ساحر ، وردة؛ لكن أشواكها تنغرز في الداخل حتى يذوي القلب الذي يضحك الناس على اخطائهم وخطاياهم ليتجاوزها ولا يعودوا اليها.
في الواقع أنا مرتبك حتى الان ،وأشعر اني لم اعط هذا الرائع حقه ، وربما سأعود للكتابة عنه لاحقا . وأترككم هنا مع بعض كلماته المحفورة في ضمير الناس :
- أوروبا تفهمنا أكثر من أمريكا ...يفصلنا عنها بحر...وعن أمريكا محيط.
- الكل يمشي وراء أمريكا ... وأمريكا لا تمشي وراء أحد إلا في جنازته.
- تمثال الحريه... ضاعت الحريه وبقي التمثال.
- نؤمن بوجود العالم الآخر... لكننا لا نؤمن بوجود الرأي الآخر.
- مع إن أغلبنا قرويون, فإن المدينة تحولنا إلى كرويين نهتم بالكرة أكثر من اهتمامنا بالقرى.
- الفاصل الزمني بين الحضارات هو الوقت الضائع في مناقشة زي المرأة.
- أمريكا استعارت اللغة من الإنجليز... والقواعد من العرب.
- «واتفق العرب»... عبارة مقتبسة من إحدى قصص الخيال العلمي.
يوسف غيشان