بقلم: تركي الدخيل
منذ 11 سنة مررنا بمرحلتين من التفاؤل. المرحلة الأولى في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وارتفاع سقف حرية التعبير في الدول العربية، والاعتراف بوجود أخطاء وفساد وفقر وفاقة ومناهج تعليم ناقصة تحرض على الكراهية والإرهاب. كانت الاعترافات مهمة، من يستمع إليها بكل تفاصيلها يظنّ أن الحكومات بدأت بوعي المشكلة، وأنها فعلاً ستضع حداً لكل السوءات التي تعشش في المجتمعات. لكن سرعان ما ذهبت الوعود وتبخرت، ولم يبق منها إلا الحبر والتصريحات، فلا تزال المناهج التعليمية عبئاً على الطالب، ولا زالت الكراهية تنتشر من دون وجود محاربة جدية لها، بل ربما استمتعت الحكومات بالحروب بين التيارات لأنهم بهذا يغفلون عن حقوقهم الأساسية، وهذا ما نشاهده الآن في كثيرٍ من الدول الإسلامية، تعزز الطائفية حتى يغفل الناس عن كرسيّ الحكم أو حتى عن القضاء على الفساد، أو دعوات التصحيح بأنواعها، كانت هذه مرحلة التفاؤل الأولى.
مرحلة التفاؤل الثانية بدأت مع الثورة التونسية، والتي كان زحفها شاعرياً، ولا تزال هي الثورة الأكثر درامية في تاريخنا المعاصر، وهي ثورة ناعمة بحق، تفاءلنا بأن تكون عواقب الثورة التونسية مثمرة على كل المستويات، وأن تنتشر الحريات وتبرز التيارات المدنية، لكن ها هي التيارات الحركية المنتمية إلى "الإخوان المسلمين" والسلفية هي التي تتسيد المشهد، سواء في تونس، أو مصر، أو ليبيا، أو الكويت. كل المناصب تولاها بعض منْ ينتمون إلى حركاتٍ أقل ما يقال عنها أنها ضد الحريات وضد الحقوق الإنسانية، وليست لديها رؤية مدنية. الغنوشي وحزبه السياسي، والذي انتخب بالأغلبية لم تكن لديه أي تجربةٍ سياسية من قبل، كانت تجربته حركية نضالية فقط، لكن يبدو أن الحنق الشعبي على زين العابدين بن علي ونظامه جعل الشعب التونسي يختار أقصى الخيارات، وهو العدو اللدود لبن علي وأعني به راشد الغنوشي وحزبه، فهو كسب الأصوات بعداوته لبن علي لا لما قدمه من مشروعٍ سياسي أو تنموي أو نهضوي، وهذا هو الفرق الجوهري والكبير.
خلال تلك المرحلتين، كان التفاؤل ضارباً في عمقه، ولا أزال أذكر كيف كان السجال حراً آنذاك، وكان الجميع متعطشاً إلى نقد الإرهاب وإلى الحديث عن الجانب المضيء في التراث الإسلامي، كان برنامجي "إضاءات" لا يزال إذاعياً بعد الأحداث الإرهابية، كنتُ أستمع إلى الجميع، حتى بعض رموز الصحوة الإسلامية في السعودية وجدوا أنفسهم بمنطقةٍ حرجة، فإما أن ينتقدوا الإرهاب وإما أن يكونوا شركاء فيه، كان الأمل أكبر من الواقع، صحيح أن الإرهاب دحر أمنياً بشكل ناجح في السعودية، وفي كثير من الدول العربية، غير أن الحديث عن إلغاء ثقافة الكراهية لم توضع ضمن مخططٍ يتم البدء فيه لمعالجة هذه المشكلة.
وكعادة المشكلات الاجتماعية تكون كامنةً ثم تنفجر فجأةً، وهذا ما أشاهده بعودة الخطابات التحريضية، واتهامات الآخرين بالإلحاد والزندقة وعودة التكفير على أشياء مختلف فيها، وانتشار الكتائب المحتسبة التي تتجه إلى المناسبات والاحتفالات. مشكلة الكراهية لم تعالج لهذا هي تجدد نفسها وتعيد تكوين أفرادها وجماعاتها وكتائبها.
منذ 2001 وإلى 2012 لا يزال السلوك هو نفسه، لأن الإرهاب ليس سلاحاً فقط وإنما ثقافة، حين تطلق الكراهية في المجتمع، ولا يوضع لها أي حد، فإن الكراهية تنتج تشكيلاتها بأنواعٍ مختلفة، وهذا ما جنيناه من إهمال الوعود بإصلاح التعليم والمناهج والنشاطات اللاصفية والخطب المنبرية كل ذلك الإهمال أوصلنا إلى ما نحن فيه. مرحلتنا من الحلم بأن نخرج فعلاً من المأزق، ولا يبدو أننا اقتربنا من المخرج، لكن هذا لا يمنعنا من التفاؤل المستمر الذي نتسلح به، لكن لا بد من العمل مع التفاؤل، لعلنا ننتج مرحلة ثالثة ناجحة.
تركي الدخيل