باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية
ANOUNE64@gmail.com
لم أكن بكاتب لهذه السطور لولا استهدافي شخصيا بالاسم خلال مقال نشر على صفحات جريدة المساء لعضو من جمعية نادي قضاة المغرب وكذا المقال الذي نشر على موقع هسبريس منتقدين لوجهة نظري حول المشاورات القائمة بخصوص الزيادة في أجور القضاة في المغرب. وأعتقد أنه من ناحية إثراء الحوار الفكري البناء والجاد مع ضرورة احترام أخلاقياته وأدبياته، ارتأيت أنه من واجبي تبيان ما لم يتم استيعابه من طرف سواء بعض القراء وخصوصا منهم السيدان مسعود كربوب وعبد الرزاق الجباري العضوين بجمعية نادي القضاة في المغرب.
في بداية الأمر، أعتقد أن المقولة السائدة "تحسين وضعيتي أولا ومن بعدي الطوفان" لا زالت سائدة في عقلية بعض من يعتبرون انسفهم نخبة، وما هم في جلهم كذلك، معتبرين وضعيتهم بالخاصة وما هي بخاصة لكون الكل يعمل من زاويته خدمة لهذا الوطن. من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف في الرؤى ولكن ما وجبت الاشارة والتأكيد عليه كونه لا السيد مسعود كربوب ولا السيد عبد الرزاق الجباري لم يتمكنا من استيعاب ولا استخلاص مضمون مقالي الصادر تحت عنوان "رسالة إلى السيد الرميد..." و بالتالي كانت تعقيباتهما عن مقالي مجانيتين كليا ومجانيا عن ما رغبت في التلميح إليه. ذلك أن كليهما خاضا في استعراض ابجديات وضعية القاضي كما تدرس في المعاهد دون تناغمها والوضعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تميز المغرب كبلد يحاول الحفاظ على استثنائية المرحلة التي يمر منها. ومن الأكيد أن سوء الفهم هذا نابع من الاختلاف في التكوين والاجتهادات الفكرية والممارسة وعدم حب الذات من عدمها... بين مختلف المؤهلات الفكرية المغربية. وهذا أمر جد طبيعي إلا أنه في عمقه وجب، أي هذا الاختلاف التكويني، أن يشكل إثراء للنقاش أكثر منه صراعا أجوفا تغلب عليه "الأنانية" أكثر منه الموضوعية والتضامن والتآزر المجتمعي.
لقد حسن القول عندما عنون السيد مسعود كربوب الشطر الأول من عنوان مقاله بكون "زيادة أجور القضاة هي جزء من الكل غير قابل للتأجيل" وبقوله هذا أكون متفقا وإياه ا كليا لكونه، أعتقد ذلك، يناشد الحكومة بالعمل على تحسين وضعية الكل وليس تحسين وضعية "الاستثناءات" وجاعلا من تحسين وضعية القاضي ضرورة تعادل ضرورة تحسين وضعية باقي المؤهلات والكفاءات المغربية في مختلف الميادين. أما الشق الثاني من عنوان مقاله، فلا مجال، بالنسبة إلي، لتقبله لكونه يميل إلى خصوصية أو استثناء، وللأسف، لا لوضعية القاضي داخل المجتمع ولكن لمستواه المعيشي الفردي. وهنا يكمن بيت القصيد الذي أعتقد أنه الأكثر حساسية لكونه يهم "الفرد على حساب الكل أو الفئة على حساب المجتمع" ويتجه نحو الانفراد بتحسين الوضعية المعاشة وهذه صيغة تفكير غير إيجابية.
وإذا ما تمت الاشارة في المقالين إلى ضرورة تبيان الفرق بين النقابة والجمعية، فتتبعنا للفعل يبرز أن الهدف يبق واحدا إذ كيف يمكن تعليل مراسلة السيد الوزير من طرف جمعية نادي القضاة بخصوص إمهاله بعض الاشهر للنظر في مطلبهم والمتمثل أساسا في تحسين الأوضاع المادية للقضاة؟ إذا كان الاطار القانوني للقاضي يبرز الفرق، فالفعل يبرز عكسه من زاوية التقارب بين الفعل النقابي والفعل الجمعوي والمتمثل في المطالبة بتحسين الوضعية المعاشة.
ومن وجهة نظري، وما لم يتم استيعابه من طرف السيد كربوب والسيد الجباري عضوي جمعية نادي قضاة المغرب هو أنه لم يكن أبدا هدفي انتقاد الزيادة في أجور القضاة في حد ذاتها ولكن المقال كان ليكون موجها صوب كل زيادة في الأجور خارج الحوار الاجتماعي, بل أعمق من ذلك، كنت أتساءل، من خلال مقالي، عن مآل ورش منظومة الأجور في شموليتها في المغرب الذي صرح وزير تحديث القطاعات العمومية في الحكومة السابقة أنه جاهز ولا يلزمه سوى بعض التعديلات الطفيفة. ما نسعى إليه، وكما اشار إليه السيد الجباري حين لمح إلى الفوارق الشاسعة في الأجور، هو إبراز بشكل موضوعي وواقعي للمعايير المتخذة لتحديد المقابل المادي لأية مهنة أو وظيفة ناهيكما عن المزايا المعنوية التفضيلية التي يتميز بها البعض دون تبيان، علاوة عن التعويضات والسكن الوظيفي والعلاوات والتي تمنح على أسس بعيدة كل البعد عن الموضوعية والشفافية والكفاءة.
فنقطة البداية هي مشتركة بين كل المؤهلات والكفاءات، مع استثناءات عدة لكون نقطة البداية ليست في متناول الكل، أي الدراسة الجامعية أو المعاهد العليا مع العلم أن كل إطار يعلم تمام المعرفة وجهته أي المركز الوظيفي الذي سيتقلده وما سيتلقاه كدخل مادي. ما وجب توضيحه يكمن في المقولة المتداولة لدا المواطن المغربي والتي مفادها أن بعض الامتيازات تمنح لبعض المسؤولين تفاديا لتعرضهم للارتشاء. وأعتقد أنكما ستتقاسمان معي الرأي إذا قلت أن هذا التعليل لا مكان له لا في قاموس الأجور ولا في قاموس أخلاقيات المهنة ولا في مقتضيات دستور 2011 الرابط بين المسؤولية والمحاسبة. ولا يمكن على هذا النحو وبأي حال من الأحوال تعليل الزيادة في الأجور كمسلك لمحاربة ظاهرة الرشوة والتي قيل بصددها الكثير.
فالاستقلالية الذي تميز قطاع القضاء لا يعني أنه قطاع لا حكم عليه ولا يحق للمواطن المغربي الاطلاع على المعايير المتخذة لتحديد المداخل المادية للقضاة. وبالمناسبة، لم لا يتم التصريح بممتلكات السادة القضاة؟ ذلك أن الاستقلالية هي استقلالية أخلاقية ودستورية كما أقرها مونتيسكيو. فالاستقلالية أو الوضع الخاص الذي عبر عنه السيدان كربوب والجباري لا يجب أن تكون مرادفا للاستعلاء والإستكبار بقدر ما يجب أن تكون مرادفا للنزاهة وحسن تفعيل مقتضيات القانون بحياد تام. مما لا ريب فيه أنه من غير اللائق أن تتم المساومة بين حسن القيام بالواجب ومستوى الدخل. إذ حينها، ماذا سيقول ذاك الجندي المرابط ليل نهار في الحدود المغربية لينعم كل المغاربة بالطمأنينة وماذا سيقول ذاك وذاك... ؟ الكل، حسب مؤهلاته وتكوينه، يؤدي واجبه مع اختلاف في المداخل وهذا ما وجب ضبط معاييره.
لستما مؤهلان لإعطائي دروس في العلاقة الوطيدة بين العدالة والنمو الاقتصادي للمغرب بل ما وجب عليكما استيعابه هو العلاقة الوطيدة التي تضمنها العدالة لبلوغ التنمية الاقتصادية في مضمونها وفي بعدها الاجتماعي. كما أنه يا سيد الجباري، ما كان عليك أن تستغل ذاك المنبر الاعلامي لتمرير ذاك النوع من الخطاب السلبي البعد لكونه، حسب قولك، يدع المواطن المغربي لقبول تحمل عبء صيانة كرامة وعزة مؤسسة القضاء وكرامة القضاة، خصوصا الشرفاء منهم، إن أراد التقدم والازدهار. ما فحوى هذا الخطاب يا سيد الجباري؟ هل هي مساومة ؟ هل تطالب المواطن المغربي بالمقابل (...) إذا ما رغب في العدالة ؟ فهذا أسلوب خطير وغريب تتحدث به ؟ من أعطاك هذا الحق وهذه الجرأة لمخاطبة المواطن المغربي بصيغة المساومة والأمر ؟ هذا في وقت تشهد به بنفسك بتواجد الشرفاء وغير الشرفاء ضمنكم وما يعنيه هذا التمييز بالنسبة للقارئ من "اختلال أخلاقي" نسبة لغير الشرفاء كما صرحت يا سيد الجباري. وبالتالي قد تطرح مسألة تقييم وتقويم هذا المجال ؟ منذ بداية كتابة هذه السطور وأنا أتجنب تبني مثل هذا التعبير وهذا النعت إلى أن بحت به بنفسك في آخر مقالك مزكيا ليس فقط ما هو متداول لدا الشارع المغربي بشأن هذا المجال ولكن مزكيا أيضا مقولة " وشهد شاهد من أهلها ".
فادعاءكما بكوني ارتكبت بعض المغالطات في مقالي، أمر قد أتقبله من زاوية الاختصاص والاختصاص القانوني فقط كما أتقبله من زاوية الحوار البناء والمحترم، أما ما لا أستوعبه هو عجزكم عن فهم المضمون التآزري والتضامني لمقالي وجرأتكم على انتقاده عشوائيا. إذ كيف تطالبون وتقبلون بزيادة أحادية الجانب في الأجور في زمن شديد الحساسية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفي زمن بات فيه من تجاوزكم علما ومعرفة يعيش في بطالة يكتوي بثناياها ليل نهار؟ ربما لا أجيد فهم بعض القوانين لكنني أعرف تمام المعرفة ما جاء به مونتيسكيو وما القوانين إلا منظومة متفق بشأنها وهي ليست بالقارة ولا بالجاثمة ولكنها منظومة تتسم بتطور مستمر وفق تطور المجتمعات لا من حيث مقتضياتها ولا من حيث آليات تفعيلها. ومن العجب أن تتخذ يا سيد الجباري من الغرب أو من الدول المتقدمة نموذجا للمقارنة بينها وبين المغرب من ناحية أجور القضاة متجاهلا للاختلافات العميقة بين الخصوصيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكليهما. ولكن، لماذا لا تتخذها مثلا في معاقبتها لبعض المتلاعبين بمقتضيات القانون أو مثلا الجرأة عند إقدام قاض ما على تقديم استقالته طواعية إثر إدراكه ارتكاب خطأ في إصدار حكم ما؟ لماذا لا تتخذهم في إيلاءهم الأولوية للمصلحة المجتمعية عوض المصلحة الفئوية ؟