مشروع الدستور الحالي المطروح على الشعب المغربي يحمل الكثير من الجديد على مستوى الحكامة السياسية والمرور إلى الديمقراطية الفعلية وفصل السلط (المتقدم نسبيا) واستقلالية القضاء ودسترة التعددية الهوياتية والثقافية واللغوية ودسترة هيآت المراقبة والوساطة وحقوق الإنسان وغيرها.
البعض يرى في هذا الدستور على أنه ممنوح وعلى أنه لا يلبي شروط الملكية البرلمانية والبعض الآخر يرى أنه ليس إسلاميا بما فيه الكفاية والبعض الثالث على أنه ليس علمانيا بما فيه الكافية. ككافة الدساتير، فإن المشروع الحالي يلبي وجهات نظر فئات عريضة من الشعب المغربي (ما يمكن تسميته بالماينستريم (Mainstream) الثقافي والايديولوجي للمغاربة عموما) وهو ما سيتأكد لا محالة يوم 1 يوليوز، ولكنه لا يلبي كل مطالب الفئات التي تقع على هذا الهامش أو ذاك من التركيبة الايديولوجية الوسطية بالمغرب.
لهؤلاء الحق في رفض مشروع الدستور والتعبير عن ذلك بحرية وأمام الرأي العام. ولهم كذلك الحق في التصويت ضده وحث المواطنين على فعل ذلك. غير أن الكثير من هؤلاء اختار موقفا سهلا وهو المقاطعة. مولاي امحمد الخليفة قال بأن هذا ينم عن "جبن سياسي" لأن هؤلاء ليست لهم الجرأة والشجاعة والقدرة على مواجهة الشعب المغربي والرأي العام ودعوته إلى التصويت برفض الدستور. أنا أقول بأن الدعوة إلى المقاطعة يبدو وكأنه موقف يحترم في إطار الديمقراطية التي نحن كمغاربة بصدد بنائها، غير أنه ينطوي على نوع من التحايل على المغاربة والشعب المغربي. من دعوا إلى المقاطعة يدركون جيدا أن دعوة المغاربة للتصويت ب"لا" على الدستور سوف لن يجنون منها ثمارا كثيرة ويخافون أن تعكس نسبة من يقول "لا" حجمهم السياسي الحقيقي. غير أن الدعوة للمقاطعة تعني أن كل من لم يذهب يوم 1 يوليوز للتصويت فهو مقاطع. إذا اختار فلاح في نواحي أكلموس أو السماعلة أو القراقرة أو آيت سغروشن أو تيوت أن يكمل حصاد حقله لأن اشتداد الحرارة يزداد يوما عن يوم وكلما تأخر كلما تعقدت عملية الحصاد بدل الذهاب للتصويت في أقرب نقطة للانتخاب فإن حزبا أو مجموعة متطرفة من اليسار أو اليمين تحسب ذلك وكأنه تجاوب مع ندائها للمقاطعة. من كان مريضا أو على سفر أو مات له أحد الأقرباء أو ولدت زوجته أو أخته أو وقعت له حادثة سير أو يشتغل بعيدا عن مكاتب التصويت أو يرعى الأغنام في الغابات و الكثيرون ممن سوف لن تسمح لهم ظروفهم الشخصية بالتصويت—كل هؤلاء سيحسبهم المقاطعون في صفهم وسيقولون إن عددا كبيرا من المغاربة قاطعوا الدستور الممنوح لهذا فهو غير صالح...
هذا التحايل السياسي الصارخ على الشعب ينطوي على نوع من الانحطاط الأخلاقي خصوصا لدى من يدعي أنه يمتلك الحقيقة حول الديمقراطية ودولة الحق والقانون. كان موقف هؤلاء سيكون سليما من وجهة نظر أخلاقية صرفة لو أنهم دعوا إلى التصويت ب"لا" ونزلوا إلى الشارع وقنوات الإعلام ودافعوا عن رأيهم بشجاعة وجرأة. إنهم لا يواجهون هذا التحدي لأنهم يعرفون مسبقا أن المصوتين ب"لا" قد يكونون دون المستوى المرغوب فيه لكي يقولوا بأنهم يمثلون شيئا. إنهم يتذكرون جيدا حزبا كان يعتبر نفسه طلائعيا وتقدميا قاطع الانتخابات منذ ولادته في الثمانينات وكان دائما يقول أن نسبة عدم المشاركة المرتفعة هي نتيجة لتجاوب الشعب مع ندائه للمقاطعة. لهذا بدأ يعتبر نفسه حزبا جماهيريا وسولت له نفسه يوما فدخل معترك الانتخابات ولم يحصل إلا على بضع مئات الأصوات و على صفر منتخب. فرجع خائبا إلى صف المقاطعة الأبدية لأنها مريحة، سهلة وممتعة، لأنها تعطيه فرحا متخيلا وجماهيرية لا وجود لها على أرض الواقع.
إن الدعوة للمقاطعة وإن كانت مشروعة دستوريا وحقوقيا فهي تنم عن نوع من الانتهازية السياسية والتحايل الفكري لا توافق وتناسب مواقف وأفكار مجموعات وأحزاب تدعي الطهارة الأخلاقية والنقاوة الفكرية السياسية. أنا أدعوهم أن ينزلوا إلى الشارع ويحاولوا إقناع الشعب التصويت بٍ"لا". آنذاك سنزن حجمهم الحقيقي ونعرف وزنهم السياسي وكيف سنتعامل معهم في الحاضر والمستقبل. إن أرادوا أن يبقوا مختبئين في برج المقاطعة العاجي فإن الكثير سوف لن يكترث بهم إن هم ركبوا بعد هذا أحصنة التغيير الديمقراطي وخلقنة السياسة وتطهير الحقل السياسي من مظاهر الفساد وغيرها.