د. المصطفى تاج الدين
سمعنا في الآونة الأخيرة كلاما عن شرطة أخلاقية تعتزم حركة التوحيد والإصلاح اقتراح إنشائها لمواجهة المفاسد الأخلاقية. وسمعنا منظمة الحرية والمواطنة ترد بان هذا الاقتراح سيجهز على الحريات الفردية في مغرب القرن الواحد والعشرين. وبين أسلامي مؤيد وليبرالي معارض تتناثر شظايا التخوين والتكفير من هنا وهناك ناطقة بشرخ عميق ستزداد أخاديده توسعا بين النخب الحديثة بالمغرب. السياسة هي الرابح الأكبر من هذا الجدال والحقيقة طبعا هي الخاسر الأكبر.
لقد كتبت مرة في جريدة الشرق الأوسط أن مصيبة تداول الأفكار في المغرب تكمن في الإيديولوجيا وخفوت صوت العقلاء من الجانبين وهو ما سيؤدي إلى تقاطب إيديولوجي يضيع الوقت عن بناء مغرب نهفو إليه بمستقبل تتراءى بعض ملامحه الجميلة ولكن سرعان ما تجهز عليها مساحيق الإيديولوجيا لتحولها إلى ملامح مسخ قبيح.
قال كار بوبر – من أكبر فلاسفة العلم المعاصرين- إذا أردت أن تفهم مشكلة ما فعد بها إلى البداية وربما كان كانط اول من نطق بذلك.
لنعد إلى البداية البسيطة فنحن في المغرب مسلمون ولا يمكن أن نتحول إلى علمانيين (بالمعنى الفرنسي) أي معادين للدين والسبب بسيط هو أن الإسلام مصدر فخرنا واعتزازنا ليس لأننا متزمتون ولا متعصبون بل لأن هذا الدين أخرجنا من مجاهل النسيان إلى يفاع الذكر المحمود. بسببه أسسنا أول جامعة في التاريخ الإنساني وبسببه أخرجنا للعالم حضارة مهما قيل عنها من سوء فهي حضارة العلم والأخلاق والسمو رغم انحدارات التاريخ ومنعطفاته ورغم فترات لم نرتق فيها إلى مستوى ما أراد منا ديننا وأخرجتنا من اجله عقيدتنا.
ولنعد إلى البداية أيضا فنحن أهل حضارة حتى قبل أن يأتي إلينا الإسلام وكنا مستعدين للتفاعل الإيجابي مع تعاليم الدين السمح لنخرج إلى العالم بشخصية مسلمة لكنها شخصية مختلفة ومميزة (ليراجع ابن خلدون لمن يريد الاستزادة).
لقد كنا دائما وسطيين فالمغربي سني لا يعارض التصوف، سلفي لا يرفض الاجتهاد، محب لآل البيت دون تشيع رفض باطني، محب للحرية دون تحطيم للمباديء ومتفتح على اللغات والثقافات دزن تفريط في هويته.
تقول البداية إن المغرب رفض الإسلام حينما ارتبط في ما يسمى عصر الولاة بالغزو وتقبله حينما ارتبط بالدعوة الصافية النقية كما تقول البداية إن مؤسسة العلماء كانت ناصحة ومؤطرة لشؤون المجتمع ومؤسسة الأمراء منخرطة في الفعل السياسي المباشر باستثناء مرحلة المرابطين والتي تضخم فيها تدخل الفقيه في السياسة وهو وضع لم يدم طويلا حتى خلال الدولة المرابطية نفسها (راجع للاستزادة رسالة التبيان لابن بلقين).
ومعنى ذلك أن البداية تقول وباختصار إن اهل المغرب يحبون دينهم ما لم بفرض عليهم والسبب أنهم أهل حضارة وعزة ولو فرضت على ذوي العزة أمرا على رغم إرادتهم لرفضوه ولو كان حميدا ولو منعتهم تكبرا عليهم من أمر لسعوا إليه ولو كان منكرا وهذا من طبائع ذوي الشيم ومناقب ذوي الحضارة.
والآن حيث يكثر الضجيج ويقل العلم أقول لإخوة التوحيد والإصلاح:
ما هو بالضبط الإسلام الذي تؤمنون به؟ إن كان إسلام البداية فلا خلاف بيننا وإن كان إسلام التاريخ والانحطاط فعذرا لن تجدوا من طبيعة أهل المغرب سوى النفور حتى وإن بدا أنكم في بداية رحلة حافلة بالنصر.
ترى لماذا نحب ديننا؟ ألأن الدولة فرضته علينا بأجهزة قمعها الرمزي والمادي أم لأنه دين الرحمة والحب؟ لنلاحظ أن إيران تعرف موجة كبيرة من النفور من الرموز الدينية كالحجاب مثلا حيث تتنافس فتيات الجيل الجديد أو الجيل الأخضر في التحلل التدريجي منه في الوقت الذي تتنافس فيه فتيات تركيا على ارتدائه. وهو أمر نراه حتى في المغرب حيث تقبل أعداد كبيرة من الناس على الالتزام بالدين والعودة إليه. فمن طبائع العمران البشري أن تزدهر الأديان في جو الحرية وتتحول إلى مجرد تظاهر منافق في جو القمع والإكراه.
إن كنتم تعتقدون أيها الإخوة أن مواجهة الدعارة بالقانون ستنجح فأنتم مخطئون والسبب أن الدعارة مرتبطة بعوامل سوسيواقتصادية واضحة. هل تعتقدون أن النساء اللواتي يبعن لحمهن بدراهم معدودة فاسدات أخلاقيا؟ ام أن هناك ظروفا أجبرتهن على ذلك. ألم يقل الله في كتابه العزيز : " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم".
والإكراه هنا نوعان : الأول مرتبط بسبب النزول وهو إكراه الخادمة على الدعارة مقابل ضريبة لصالح السيد الفاعل للإكراه. والثاني إكراه المجتمع وهو إكراه رمزي غير مباشر إذا أردنا توسيع الدلالة القرآنية لتوافق كل زمان ومكان. ولنلاحظ هنا أن المكرهة على البغاء تريد في قرارة نفسها أن تتحصن مما يفيد أن الربط الميكانيكي بين الدعارة والفساد الأخلاقي ليس صحيحا دائما. وأنا هنا أؤسس لمعيار قرآني مليء بالرحمة والفهم الإلهي للطبيعة البشرية الضعيفة كما أنني لا أقول إن كل داعرة مكرهة لكن ما يهمني هو المبدأ القرآني العام فإن شذت عنه استثناءات فإنها تؤكد معناه ولا تلغيه.
ومعنى ذلك أيها الإخوة أن ربط الدعارة بفساد الأخلاق امر سابق لأوانه ما دمنا لم نقم بشيء لحد الآن لحل المشكلات الاجتماعية المتفاقمة كالطلاق وغياب الرعاية للمطلقات وكذا استفحال البطالة والأمية والجهل وكلها إكراهات اجتماعية إذا ألمت بمجتمع انتشرت فيه الرذيلة لا رغبة فيها بل لكونها نتيجة ملازمة للوضع الاجتماعي.
لقد لا حظت في ماليزيا من خلال وزارة المجتمع أن النساء الماليزيات من أصل صيني لا يشتغلن في سوق الدعارة الذي تملؤه نساء مسلمات وتايلانديات وفلبينيات. وهذا لا يعني أن الصينيات من طينة مختلفة بل لأن الأقلية الصينية أقلية مترفة يؤكد هذا أن سوق النخاسة تملؤه الصينيات القادمات من يلاد الصين الأم إلى هونغ كونغ مثلا والسبب هو الحالة الاقتصادية في الصين.
ألم يأخذ سيدنا رسول الله البيعة من نساء العرب على أن لا يزنين؟ والسبب وجود ذلك فيهن ولم نعلم ان النبي او أحد من خلفائه ولا أي خليفة مسلم جاهر بالتنقيص من هذا النوع من النساء أو أمر بتكوين جهاز للشرطة لتتبعهن وكشف عوراتهن كيف يفعل ذلك وهو النبي الذي يقتبس من نور القرآن ويسعى حثيثا بين الناس بكلمة الحب والرحمة. كيف تطردون بغيا والأولى أن تحلوا مشكلتها فإن عادت إلى الفحش حينها يمكن أن نستعمل القانون. ألم تقرأوا عن سيدنا المسيح عليه السلام حينما وجد طائفة من اليهود يريدون رجم تلك البغي فقال لهم نبي الله ناطقا من مشكاة النبوة ونور الوحي: من لم يزن فليرمها بحجر. ويشير ابن حزم رحمه الله إلى أن ضروريات الإنسان في المجتمع المسلم مسكن ومأكل ولباسان مستوحيا ذلك من حديث رسول الله عن الأشعريين ليقول ابن حزم: وما لم توفر الجماعة للناس ذلك برئت ذمة الله منها ومعناه أنها لم تعد جماعة مسلمة أصلا.
وإن كان سيدنا علي قد ربط بين الفقر والكفر أفلا يكون ربطه بالزنا من باب أولى؟ وهو الذي أثر عنه ما معناه : لا يزني إلا أحمق قال ذلك لما رأى المسلمين ينعمون بالعدل في توزيع الثروة، فالزواج سهل وحماية المطلقة بمقتضيات السراح الجميل في القرآن موجود وزواج المطلقة ميسر وحماية أهلها وبيت مال المسلمين لها أمر مضمون فكيف تزني الحرة؟؟ من تحررت من إكراه السيد العربيد والمجتمع الظالم؟
إن هذا الدين دين رحمة وعقل ونفاذ بصيرة وأكاد أجزم أن من نسميهم بالعلمانيين لو تحدثنا إليهم من مشكاة الإسلام الأول لما وجدنا منهم نفورا وإن فعلوا فلن يزيد نفورهم إلا انتشارا للحقيقة الدينية البعيدة عن الأدلجة والتكبر الذي بدأنا نراه من إخوة كانوا بالأمس دعاة ويريدون اليوم أن يصيروا قضاة.