العفو الذي صدر عن قيادات السلفية الجهادية نهاية الأسبوع الماضي بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف ليس حدثا عاديا على الإطلاق. هو صفحة تطوي نفسها بنفسها، فيها الكثير من آلام الأسر التي عانت اختفاء أبنائها خلف القضبان، وفيها الكثير من الشجاعة السياسية من طرف من قرروا العفو ونفذوه في هاته اللحظة الحاسمة والمحتقنة سياسيا، وفيها الكثير من الأمل للمغرب أن يبدأ بالفعل منعطفا جديدا في مساره قوامه الحوار بين أبنائه، كل أبنائه, دونما تكفير من جهة ودونما قمع وتشريد من جهة ثانية.
الامتحان الصعب في الحقيقة سيبدأ الآن، وقد قرأنا لعمر الحدوشي الشيخ السلفي وهو يتحدث في حوارين إثنين، عن إطلاق سراحه مثلما قرأنا لحسن الكتاني ولاحظنا الفرق في النبرتين بين رجل يقول إن العفو عاد جدا وكان منتظرا ولا فضل لأحد على أحد فيه، وبين رجل ثان استوعب سياسيا اللحظة وشكر أهلها بعد أن شكر الله، واعتبرها فرصة لبدء العمل من جديد، وإقفال الباب أمام كل الفتن التي قد تحدث بين أبناء المجتمع الواحد مما نراه اليوم في دول أخرى قريبة إلينا أو شبيهة بنا تعاني الويلات جراء التمزق الذي حدث بين أبناء البلد الواحد فيها.
وإذ نستحضر ضرورة منح الحدوشي قليلا من الوقت لكي يستعيد المشهد العام براحة بعيدا عن ضغط تسع سنوات رهيبة من السجن (الله يحسن العوان)، نستحضر كذلك أن العفو الأخير كان بمثابة بادرة نية حسنة من الدولة أنهت به الميل لصالح المقاربة الأمنية، واختارت به أن تبدأ مسارا آخر يمتح من الانفتاح الذي يعرفه البلد منذ العشرين من فبراير من السنة الفارطة، والذي وصل أوجه بوصول إسلاميين إلى رئاسة الحكومة في البلد. ما يعني أن على بادرة حسن النية هاته أن تلاقي في الضفة الأخرى بوادر تشبهها، والهدف في الختام واحد: أن نصل بهذا البلد الذي يعد بلدنا جميعا، ولا حق لأحد دون أحد أن يدعي أنه صاحب شيء فيه، إلى بر نجاة يبدو صعبا للغاية في الظروف الحالية التي تمر منها المنطقة.
إن عبارات مثل “لا نكفر أحدا لكن نكفر من كفره الله ورسوله” التي حبل بها حوار عمر الحدوشي مثلا بعد الإفراج عنه هي عبارات في غير محلها باختصار، لأنها تؤكد اقتناع الرجل وطائفته الفكرية أن لهم الحق في أن يكفروا من شاؤوا وأن يدخلوا الدين من شاؤوا، علما أن هذا الأمر أبعد عن أرنبة أنوفهم مهما تعالموا علينا، والدين الإسلامي مثلما فهمه المغاربة منذ لحظة وصوله إليهم هو دين يسر يجعل العلاقة مباشرة بين العبد وخالقه دونما حاجة لأي “منطيح” كيفما كان نوعه لكي يمثل علينا جميعا دور الواسطة، أو ينقل من المسيحية طقوس الرهبانية التي لاتوجد في هذا الدين الحنيف لكي يوزع على الناس صكوك الغفران أو الذنوب.
الدين الذي نفهمه ونتمسك به أيما تمسك هو الدين الذي يسمح لهذا البراح المشترك بيننا جميعا والمسمى مغربا بأن يحملنا بين أحضانه، أما الدين القائم على تقسيم المجتمع كل ثانية إلى كفار ومسلمين، فدين لا حاجة لنا به “من الأخير”، ودونما إطالة في الكلام. نفهم حاجة التيار السلفي الجهادي أو السلفي دونما إضافة أي وصف لإثبات مكانته في الساحة، هو الذي يرى الاكتساح الكبير الذي يحققه إخوانه في مصر وغيرها من البلدان اليوم، ونفهم أن تقود حماسة ما بعد الإفراج الناس إلى التعبير بحمية (لن نقول عنها حمية الجاهلية) لكنها حمية متحمسة أكثر من اللازم عن انتظارات مابعد السجن، لكننا نريد وضع قليل النقط على قليل الحروف لكي يطمئن القلب منا، ولكي نشرع في السير مجددا دونما عثرات لا نريدها لهذا الطرف أو ذاك.
الفترة العصيبة التي نوجد فيها اليوم هي فترة مشتركة بيننا جميعا، وهي منفتحة _في بلد مثل المغرب_ على كل الاحتمالات، إذ يمكنها بالكثير من العمل الحقيقي، ومن استخدام العقل من طرف كل الجهات أن تصل بنا إلى بر النجاة، ويمكنها بالمقابل _لاقدر الله_ بقليل التحمس المبالغ فيه هنا وهناك أن تدخل بنا المتاهات التي ظللنا نهرب منها بنجاح حتى الآن.
لذا يبدو امتحان السلفيين الخارجين من السجن حديثا وبالتحديد امتحان قياداتهم وتصريحاتها امتحانا عسيرا للغاية، يراقبه الشعب المغربي الذي يستحق كل الخير، بعين منتبهة وتيقظة تريد أن تعرف إن كان المسار السلمي للبلد كله نحو المزيد من الانفتاح سيؤكد نفسه أم أن هناك من يريدها فتنة بيننا، ولا يرى بديلا عن تقسيم الناس إلى طائفة معه ستدخل الجنة، وطائفة أخرى ستلج النار.
هو كلام قد يبدو في غير محله واللحظة لحظة تهنئة فقط, لكنه كلام ضروري، فالبلد ليس حمل أي مقامرة من أي نوع كان. والله من وراء القصد في الختام.
المختار لغزيوي