وهذا لغز جديد لم "أقشع فيه الذي بعث" أي لم أفهم فيه شيئا على الإطلاق.
بوسبرديلة مثلما يسميه الحميميون المقروبن منه أو محمد نوبير الأموي مثلما يعرفه خلق الله كلهم زعيم الكونفدرالية الديمقراطية للشغل يوافق ويصوت بنعم على دستور 1996 الذي أعده من التفصيل الصغير إلى التفصيل الكبير الراحل ادريس البصري (بلا هضرة لأن الرحمة وحدها تجوز على الأموات) ويرفض بالمقابل دستور 2011 الذي اجتمعت عليه أمة لا إله إلا الله المغربية لكي تنجزه.
ومتى كان الرفض؟ بعد أن شارك جلسات الإنصات والمشاورة مع الأحزاب والمركزيات النقابية المغربية. "يا الله شي حد يفسر لينا هاد الحجاية حتى هي؟". هل نعتبر أن دستور 1996 متقدم على دستور 2011 المقترح علينا اليوم؟ صعيبة شوية. هل نقول إن ادريس البصري كان طرازا ماهرا يعرف من أين تؤكل الكتف، ومن أين تمر الكلمات لكي تقنع بوسبرديلة بالتصويت الإيجابي على الدستور وعلى غير الدستور؟ بالتأكيد. والراحل ادريس البصري لم يكن فقط جلادا كبيرا ووزير داخلية متجبر مثلما تصفه لنا الأدبيات الصحفية والسياسية "ديال ديك الوقت". ادريس البصري - رحمه الله وبشبش الطوبة التي تحت رأسه - كان رجلا يعرف كيف يخاطب بعض السياسيين، وكان يعرف كيف يتعامل مع بعض الصحافيين، وكان قادرا على التعامل مع كل واحد حسب مايعرفه عنه من ملفات، وكان يتقن الضرب في المكان الموجع بالتحديد، لذلك لاغرابة أن يوافق الأموي على دستور ادريس البصري سنة ١٩٩٦ ويرفض اليوم دستور المنوني ومعتصم والبقية رغم أن العالم المتقدم كله يقول لنا إن دستور اليوم الذي يقترح على المغاربة هو دستور فاق مستوى توقعاتهم بكثير بغض النظر عن الكلام الصالح للاستهلاك الذي يقال هنا وهناك والذي لن يصح في الختام لأنه مبني على باطل كبير.
ربما أن الأموي سنة ١٩٩٦ كان مقتنعا بأن الدستور الذي اقترح علينا آنذاك كان جيدا لأنه كان يصول ويجول في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ربما صوت بالإيجاب لأنه كان يعرف أنه سيكون صاحب الكلمة الفصل في عدد الوزراء الذين سيدخلون الحكومة، من الأشعري إلى بنعتيق مرورا بالحليمي الذي رسم رفقته الشكل الكامل لوزراء التناوب في الحكومة الشهيرة إياها. حقيقة لا أفهم تماما مثلما لا أفهم لغزا آخر لابد من الانكباب عليه في الأيام "الثورية المفترجة" التي نمر منها الآن هو لغز التنويه الغريب وغير المفهوم بما يقع في تونس ومصر من طرف بعض "صحافتنا" وبعض "ساستنا". تنويه بالثورة ونجاحاتها وسكوت عن حالة الفوضى السياسية الحقيقية التي يعيشها البلدان الآن. أمر يفترض بعض التوضيح لتصحيح هذه الصورة الوردية المراد ترويجها لأسباب واضحة للغاية. فتونس التي مرت إلى حدود الآن قرابة الستة أشهر على سقوط نظام بنعلي فيها لم تعرف لا انتخابات تشريعية ولا انتخابات رئاسيةو وكل ماحدث فيها هو تفريخ الدكاكين السياسية بشكل مضحك ومبك للغاية, استجابة لنزعات وأهواء شخصية أكثر من الاستجابة لحاجة سياسية فعلية. كما أن "مهزلة" محاكمة رئيس البلاد السابق في يوم واحد والحكم عليه غيابيا بالسجن خمسة وثلاثين سنة في ظرف ساعات قليلة هي مهزلة تظهر لنا أنه من الممكن التلاعب بالقانون حتى من طرف الثورة الجديدة التي اختزلت سنوات من الفساد السياسي لنظام بنعلي في يوم واحد, وتمكنت من فرض مقلب سخيف للغاية على الجميع بموجبه حكم قضاة كان يستغلهم النظام السابق لتصفية الحساب مع معارضيه, على رمز هذا النظام بنفس الطريقة التي كان يستعملها هذا الأخير, الشيء الذي جعل العديدين يقولون إنه لو كان بنعلي حاضرا في البلد لقتل في الساحات العامة أو لأعدم مثلما وقع لتشاوشيسكو في رومانيا دون محاكمة عادلة, بل استجابة لمطلب غوغائي واضح بموجبه تريد الجموع أن تنتقم والسلام بغض النظر عن القانون وعن سيادته أو غيرها من الشعارات التي ترفع اليوم والتي يفترض أن الثورة قامت من أجلها.
ولا نفس الأمر يقع في مصر التي لازالت على حالها متأرجحة بين دستور لاتوافق عليه وبين خطوات سياسية يتحكم فيها سدنة النظام السابق الذين يسيرون كل شيء, ورغم ذلك يتم تجاهل كل هذا والتركيز فقط على شعارات كاذبة بداعي أن الثورتين قلبتا حياة الناس رأسا على عقب في البلدين المذكورين علما أن الأمر كاذب وغير صحيح.
عندما ندقق قليلا في السبب الذي يجعل البعض لدينا هنا يفتري كل هذا الافتراء, نجد بين الأسطر الكثير من المسكوت عنه, وفي مقدمته الرغبة في أن يقع لدينا ماوقع في البلدين, وهو السبب الذي يجعل البعض يدفع اليوم نحو التأزيم بأي شكل ودون أدنى تفاعل مع مايتم طرحه من مبادرات مهما بلغت أهميتها. ومن هنا وجب التدقيق قليلا في صدقية بعض الشعارات التي ترفع هنا وهناك. الديمقراطية الحقة "حتى شي حد ماكرهها". الدخول بنا إلى متاهة الموت السياسي أكثر مما نحن فيه والارتماء في المجهول لمعانقة الظلامية وهي تحكم البلد إرضاء لنزوعات ثورية كاذبة لدى الكثيرين "هادي اماتفقناش عليها وعمرنا ماغادي نتفقو", مهما قال لنا مخترعو هذه الألغاز الثورية الفجة, ومهما حكوا لنا من "الحجايات" الكاذبة التي يكفي للتأكد منها أن يكون الإنسان متابعا لنشرات الأخبار هذه الأيام.
أما بوسبرديلة, فلغز الألغاز الذي لن يشرح نفسه إلا إذا عاد الراحل ادريس البصري إلى الحياة, وهذه مسألة مستحيلة الوقوع, واالله أعلم "عاوتاني", ذلك أننا عدنا إلى زمن المعجزات "الثورية", وأشياء كثيرة أصبحت ممكنة الحدوث وإن كانت غير متوقعة نهائيا.
ملحوظة لاعلاقة لها بما سبق
حمى السب والشتم التي أصبنا بها في الأنترنيت المغربي ضد كل من يتجرأ ويقول كلمة واحدة مخالفة لما يريد الشعب سماعه هي حمى تقول لنا الكثير عن حالة الحوار المفقود في الوطن، وتؤكد لنا أن البون لازال شاسعا بين مايطلقه البعض من كلام كبير عن التغيير والرغبة فيه وفتح المجال للرأي والرأي الآخر وبين التطبيق العملي الذي يقف عند الدرجة البدائية الأولى لسب أي واحد يعبر عن رأي مخالف أو مغاير. الأسف، هو الشعور الوحيد الذي يصلح لمرافقتنا هذه الأيام