أحرَقوا جلودهم. أشعلوا النار في أجسادهم. اختاروا الاحتراق تعبيرا عن الاحتجاج. لكن، الاحتجاج ضد ماذا وللمطالبة بماذا؟ الاحتجاج باسم ماذا؟ الاحتجاج للاستفادة من... الوظيفة العمومية.
هي اليوم لغة جديدة في الحوار: «الوظيفة العمومية أو الاحتراق». «التوظيف في القطاع العمومي أو الاشتعال». منذ بضعة أشهر، احتجز عدد من العاطلين مقر المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مطالبين بالوظيفة العمومية وبـ... تعويض عن عدم الشغل منذ تاريخ الحصول على الشهادة العليا. ساعتها، ضحكت من الأمر. التعويض عن عدم الشغل منذ الحصول على شهادة عليا، معناه أن كل من يحصلون على تعويض مقابل الشغل أغبياء، مهما كان فرق التعويض. لماذا لا نجلس جميعنا في بيوتنا معززين مكرمين، وننتظر تعويضا من الدولة مهما قل، فسيمكننا من الحصول على حد أدنى من المداخيل؟ يمكننا بعد ذلك أن نرفع سقف مطالبنا. سنحتل حينها مقر إدارة أخرى، لكي نحتج على المبلغ الهزيل، ونطالب برفع هذا المدخول. لا تهم إنتاجية البلد ككل. لا يهم اقتصاد البلد ولا أهمية لشيء اسمه الإنتاج أو خلق القيمة المضافة. «الدولة قرّاتنا، الدولة تخدّمنا».
خلال الأيام القليلة الماضية، قرأت لأحد ممثلي جمعية للـ «معطلين» الحاصلين على شهادات عليا حوارا على إحدى الجرائد الوطنية. أولا وللإشارة، فعلينا أن نفكر جديا في حكاية «المعطلين» هذه. كلمة «المعطل» تعني لغويا أنه مفعول به؛ أنه معطل بفعل فاعل؛ أنه يريد الاشتغال لكن قوات أخرى تمنعه. الحقيقة أنهم عاطلون، وليسوا معطلين. ثانيا، الأخ المحترم كان يقول في استجوابه إنه وزملاءه سيستمرون في الاحتجاج للحصول على حقهم في الوظيفة العمومية وإنهم يطالبون بالإدماج الفوري في الوظيفة العمومية بدون مباراة. لا أيها الرفيق. الوظيفة العمومية ليست حقا، ثم، لماذا نطالب الدولة بالشفافية، محتجين، حين يتم تفويت مشروع معين بدون طلب عروض، ونعتبر رغم ذلك أن من حقنا الاستفادة من الوظيفة العمومية بدون مباراة؟ هي سياسة الكيل بمكيالين مرة أخرى. حرام عليهم وحلال علينا.
لنقلها مرة أخرى وبصراحة: الوظيفة العمومية ليست حقا، الحكومة المغربية تخطئ كثيرا حين تحاول امتصاص غضب الشارع من خلال حملات توظيف واسعة. إنها تخلق آمالا كاذبة، وتعطي الانطباع بأن مطالب عاطلي أجمل بلد في العالم هي حق مشروع. علينا أن نعي بأن الدولة لا تنتج ولا تُشغّل. علينا أن نعي أن تشغيل الآلاف بدون حاجة حقيقية تخريب لميزانية البلد بأكمله.
أن نرفض الاشتغال في القطاع الخاص، ونعتبر أن القطاع العام وحده يستحقنا هو شكل من أشكال المطالبة بالاستفادة من اقتصاد الريع. نريد حقنا من الكعكة. كفانا من التحجج بأن القطاع الخاص غير مهيكل، وبأننا نريد ضمانات بعدم فقدان العمل في ما بعد. هذا كلام مردود عليه. ما شأن العائلات الكثيرة والملايين من المغاربة الذين يشتغلون في القطاع الخاص؟ ماذا لو طالب الجميع بترك القطاع الخاص والانضمام إلى سلك الوظيفة العمومية؟ ثم، أن نطالب بالوظيفة العمومية على أساس أن فيها ضمانا للشغل مدى الحياة فهذا معناه عدم قدرة الشخص المعني على مسايرة إكراهات سوق الشغل في القطاع الخاص. الأخير يطالب بالكفاءات والمردودية، بينما الوظيفة العمومية تضمن منصبا طيلة العمر، مهما تدنت أو ارتفعت الكفاءات. ماذا لو قررت الدولة أيضا العمل بمفهوم الكفاءات، وطرد كل من لا يقدر على مسايرة وتيرة عمل مرتفعة؟ هل يا ترى سيستمر الجميع في المطالبة بالحق في الوظيفة العمومية؟ هذا هو الحل ربما: سحب مفهوم «العمل القار المضمون» من قاموس الوظيفة العمومية.
ثم، في أي بلد في العالم تضمن الدولة وظيفة لكل خريج؟ لنتخلص من مغالطات «الكرامة» في هذا الموضوع بالذات لأن الوظيفة العمومية لم ولن تكون حقا. من واجب الدولة أن تعمل على تشجيع الاستثمار من أجل تطوير فرص الشغل، لا أن تُشغل. من واجبها أن تطور تعليما حديثا يتماشى مع متطلبات السوق، لا أن تشغل كل خريجي جامعاتها ومعاهدها.
أتذكر صديقا قال لي ذات يوم: «مستوى التعليم في المغرب متدن إلى حد لا يمكن أن تقبل شركات القطاع الخاص بتشغيل هؤلاء الخريجين». هذا كلام خطير لأننا في النهاية نطالب الدولة بتشغيل أشخاص لسنا متأكدين من كفاءاتهم. نطالبها بتشغيل كل من يرفض القطاعُ الخاص تشغيلهم. نقبل أن تقوم الشركات الخاصة بمباريات واختبارات ونطلب من الدولة أن تغمض العين وتفتح الأذرع. طيب، كيف سيمكننا بعد ذلك أن نطالب الدولة بمستوى خدمات معين، إذا كنا اليوم نطالبها بتشغيل الجميع، بدون مباريات وبدون حتى الحاجة إلى تلك الأعداد الهائلة من الخريجين؟
مزيدا من المسؤولية في النضال نفسه، لو سمحتم، فليست كل المطالب مشروعة.
بقلم : سناء العاجي: كاتبة