|
|
|
|
|
أضيف في 25 يناير 2012 الساعة 53 : 20
علي شرف الدين * قبل 20 عاماً استقبل العالم السنة الجديدة بخريطة مختلفة تماماً، هذه الخريطة خلت من دولة عظمى، أو الإمبراطوريّة الأخيرة إذا صحّ التعبير، فقد انتفى وجود الاتحاد السوفياتي. طبعاً يرى كثر في انهيار هذا البلد كارثة حقيقية، وشطر كبير من مواطني روسيا والجمهوريات السوفياتيّة يحن إلى الزمن القديم، ويحصل ذلك خصوصاً في فترة الأزمات. وقد اعتبر بوتين نفسه أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين. قد لا يكون تفكك الاتحاد السوفياتي مفاجئاً بحدّ ذاته إذا اعتبرنا المعطيات التي سادت في آخر عقدين من زمن وجوده، لكن المفاجئ هو سرعة هذا التدهور الذي أصاب كل مفاصل البلاد. ولنقرأ الأسباب بوضوح لا بدّ من العودة إلى السبعينات حين بدأت بوادر الخلل في بنية النظام تطفو على السطح.
إن كان حكم خروتشوف بعد عهد ستالين قد تميّز إلى حدّ ما بالانفتاح على الغرب، على رغم أزمة الصواريخ الكوبيّة مع الولايات المتّحدة، وبإرساء إجراءات إصلاحيّة في الداخل كإعطاء بطاقات الهويّة للفلاحين ما مكّنهم من التنقل داخل البلاد، وتشجيع غزو الفضاء (إرسال الاتحاد السوفياتي الرجل الأول إلى الفضاء)، وإنجازه الأهم والذي كان فضح ممارسات ستالين والعبادة الشخصية المرتبطة به، كذلك إطلاقه ملايين المعتقلين من المعسكرات الستالينيّة. فإن عهد بريجنيف الذي استمر 18 سنة مثّل محاولة للعودة إلى الستالينيّة، وعرف عهده شعبياً «زمن الكساد»، على أن البداية كانت ناجحة، فقد حقق الاتحاد السوفياتي أفضل خطة خمسيّة اقتصادية في كل عهوده.
قفزة اقتصاديّة أخيرة لكنها كانت القفزة الاقتصاديّة الأخيرة، دخل بعدها الاقتصاد السوفياتي في كساد ومعاناة دائمة نتيجة سياسات الحزب الشيوعي الاقتصاديّة البائسة، والصرف الهائل على التسلح. لقد انعكست الحرب الباردة وسباق التسلّح بين قطبي العالم الولايات المتّحدة والاتحاد السوفياتي، في أسلوب التسلح الهستيري، وكان تفوّق السوفيات عددياً (ضخامة حجم العتاد) لكن ليس بالضرورة في النوعيّة. هذا العدد من الأسلحة الذي ربعه كفيل بإبادة العالم أثقل على موازنة الدولة وأهلكها. وفي وقت كان القطاع العسكري الأمني على مستوى هائل من التطوّر، فإن القطاعات الأخرى الحيويّة للبلاد، خصوصاً الإنتاج الزراعي واجهت صعوبات كبيرة، بل إن الاتحاد السوفياتي والذي شكّل حوالى سدس مساحة اليابسة في العالم كان يضطر إلى استيراد الخبز والحبوب لإطعام شعبه! بداية النهاية، والعدّ العكسي لرحيل هذه الدولة العظمى كانت عام 1979 مع دخول الجيوش السوفياتيّة إلى أفغانستان. وإذا كانت فييتنام مستنقع الولايات المتّحدة فإن أفغانستان مستنقع الاتحاد السوفياتي. فهذا النزاع استنفد قدرات الدولة المرهقة أصلاً وضرب سمعتها عالمياً (كما حصل عشيّة دخول جيوش حلف وارسو إلى براغ 1968). عدا عن كون الولايات المتّحدة استغلّت هذا المستنقع لتحقيق انتصار صامت على القدرات العسكريّة السوفياتيّة عبر تسليح المجاهدين الأفغان.
آخر عقد من حياة الاتحاد السوفياتي يشبه كوميديا تراجيديّة، مزيج مما يثير الضحك والبكاء في آن. ففي آخر سنتين من حياة بريجنيف حتّى وفاته عام 1982 كان بالكاد قادراً على الحركة. دولة عظمى على رأسها رجل شبه مشلول. هذه الصورة كفيلة وحدها بالتنبؤ بالنهاية، والأدهى أن اللجنة المركزيّة انتخبت في المرتيّن التاليتين أمناء للحزب في خريف عمرهم، وإن كان أندروبوف رجل دولة فعلاً وخريج المدرسة الأهم والأفضل في الاتحاد السوفياتي، أي الكي جي بي، فإن تشيرنينكو خلال حكمه الذي استمّر 13 شهراً كان في حال أسوأ من حال بريجنيف في سنواته الأخيرة حيث بقيت قنينة الأوكسيجين ترافقه أينما ذهب. وإذا كان أندروبوف قد حاول إعادة الأمور إلى نصابها في البلاد، فإن رحيله السريع قطع طريق الأمل على هذه المحاولة. رحيل 3 حكّام للاتحاد السوفياتي خلال نصف العقد الأول من الثمانينات، دفع الرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريغان إلى القول: «إنني أحاول أن التقي أحدهم لكنهم لا ينفكّون يموتون».
مجيء ميخائيل غورباتشيف إلى الحكم كان إلى حدٍّ ما مفاجئاً، كأنه قفزة مباشرة من الخطوط الخلفيّة في المكتب السياسي للحزب الشيوعي إلى مركز الأمين العام، لكن ذلك لم يمنع الارتياح الذي ساد أوساط النخبة الحاكمة التي اعتبرت أنها أمّنت استقراراً للحكم قد يدوم 20 سنة نتيجة رئاسة شخص نشيط وصغير السنّ نسبياً. بدأ غورباتشوف بإطلاق سياساته الإصلاحيّة وتحديداً «الغلاسنوست» (الشفافيّة) و«البيريسترويكا» (إعادة البناء)، ، مضمون السياسات كان ممتازاً وتقدمياً، وتحديداً ما كانت في حاجة إليه الحياة السياسيّة والنظام الصدئ، لكن الانهيار الذي كان قد أصاب البنية السوفياتيّة في حينه بلغ نقطة اللاعودة، ومهما حاول غورباتشوف، كان يظهر للمشاهد أنّ سياساته هي التي عملت على تفكيك الدولة، رغم عدم صحة هذه المقولة حرفياً. في الجبهة الأخرى وفي الوقت الذي اتخذ غورباتشوف قراراً أحادياً بوقف التجارب النووية، كانت الولايات المتّحدة تعقد اتفاقاً سرياً لخفض سعر النفط لضرب الاقتصاد السوفياتي المشلول أصلاً والذي يعتمد على عائدات صادراته من الخامات، وبالتالي فإن انخفاض دولار واحد كان يكلّف الموازنة السوفياتيّة عجزاً هائلاً.
وبينما رغب غورباتشوف في التوصل إلى اتفاق مع ريغان على تفكيك الأسلحة القصيرة والمتوسطة المدى، فإن ريغان عمد إلى إطلاق مشروع حرب النجوم، الخطوة التي من شأنها بسط السيطرة الأميركيّة التامة في المجال العسكري في ظلّ معاناة الاقتصاد السوفياتي الذي لم يعد قادراً ليس فقط على مجاراة الولايات المتّحدة في التسلّح بل أيضاً على توفير المنتجات الحيوية لشعبه، كاللحم والزيت والخبز وغيرها. طوابير من الناس تقف ساعات أمام المحال وأحياناً لأيّام لتشتري حاجاتها، والمشكلة ليست في انعدام الأموال، فالناس لم تملك الفرصة لتصرف أموالها. لقد امتلأت صناديق التوفير بأموال الشعب، توّفرت مع الناس مبالغ كبيرة غير فعّالة لسبب بسيط هو أنّ السوق خلت تقريباً من المنتجات، المأساة الكبرى ستأتي عند تطبيق سياسة اقتصاد السوق في أول أيام نشوء روسيا الاتحاديّة، عندها سيخسر الناس كل مدخراتهم في لحظة واحدة. تشرنوبيل وأخواتها الكوارث لم تفارق الاتحاد السوفياتي في نهاية أيامه، فبعد سنة على حكم غورباتشوف، حصل تسرب نووي على أثر حادثة تشيرنوبل التي جرى التكتم عليها حتّى عمت أخبارها أوروبا، تلتها احتجاجات ألما آتا في كازاخستان بسبب تعيين روسي على رأس الجمهوريّة الكازاخيّة، توتر في القوقاز، زلزال أرمينيا المدمّر عام 1988، اصطدام القطارين في أوفا ومقتل أكثر من 500 شخص، إلى أعمال العنف بين أذربيجان وأرمينيا حول منطقة ناغورني كاراباخ، ودخول القوات السوفياتيّة إلى باكو وفيلنيوس بعد خروجها من أوروبا الشرقيّة سياسياً فعسكرياً.
مع اقتراب الثمانينات من نهايتها كان واضحاً عدم إمكان إنقاذ الاتحاد السوفياتي، على رغم بعض إيجابيات سياسات غورباتشوف، فقد شهد حكمه ثورة ثقافيّة لم تشهدها روسيا «الديموقراطيّة»، تم نشر آلاف الكتب التي إمّا كانت ممنوعة أو موضبة في أرشيف الكي جي بي، الناس بادرت إلى المطالعة وصارت تذهب إلى المسارح لتعوض عقوداً من القمع الثقافي وتشاهد عشرات العروض التي كانت حتّى الأمس محظورة. تمّ وقف التشويش على الإذاعات الغربيّة الموجهة إلى الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي كان يكلّف الدولة أكثر مما يكلّف تشغيل الإذاعات عينها. أصبح نقد الحزب الشيوعي أمراً مقبولاً بعدما كان يوازي الخيانة العظمى. أعادت الدولة الاعتبار إلى المنفيين وعلى رأسهم سولجينيتسن وأندريه ساخاروف. تعرّف الناس على أمور كانت تعتبر من أسرار الدولة، واعترفت السلطات بمسؤوليتها في مجزرة الضباط البولنديين في كاتين. كما سحب غورباتشيف الجيش السوفياتي من المستنقع الأفغاني بعد عشرة أعوام على المحاولة الفاشلة لبناء الاشتراكيّة هناك، وفكك منظومة حلف وارسو التي توقف رصيدها عند قمع شعبين أرادا الحريّة، الهنغاري في 1956 والتشيكوسلوفاكي عام 1968. في خضم تطور الأحداث هذه كان واضحاً خصوصاً بعد انهيار جدار برلين في 1989 والتغييرات السياسية في أوروبا الشرقيّة، أن التغيير آت إلى الاتحاد السوفياتي نفسه، فقد تمّ تبنّي تشريعات جديدة ألغت أحاديّة الحزب الشيوعي الحاكم، وأنشئ مجلس نواب منتخب شعبياً. السلطة تُسحب من تحت أقدام الحزب الشيوعي السوفياتي تحت أنظاره. أوائل التسعينات تمّ إنشاء موقع رئيس الاتحاد السوفياتي بعد أن تمّ فصله عن الأمانة العامة للحزب الشيوعي، وانتخب غورباتشوف أول وآخر رئيس للاتحاد السوفياتي، كما شرع الحديث عن صيغة جديدة لإعطاء المزيد من الحريّات للجمهوريات مع الحفاظ على وحدة الاتحاد. وفي الاستفتاء الذي جرى في آذار (مارس) 1991 وشاركت فيه الجمهوريات عدا جمهوريّات البلطيق، فإن 70 في المئة من المواطنين أبدوا رغبتهم في الحفاظ على الاتحاد، فيما تعدّت هذه النسبة الـ 90 في المئة في جمهوريات آسيا الوسطى.
كان يفترض أن يوقّع رؤساء الجمهوريات الصيغة الجديدة في 20 آب (أغسطس) 1991، لكن العالم استيقظ في 19 آب على خبر حصول انقلاب في موسكو، واحتجاز غورباتشوف في مصيفه في القرم. استمر الانقلاب لثلاثة أيّام، بعدها تمّ اعتقال جميع الانقلابيين وحكم عليهم بالسجن. كان واضحاً خلال الانقلاب بأن الشعب يعارض العودة إلى الوراء، لا فرق ما إذا كان الانقلابيون يحاولون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإلغاء إصلاحات غورباتشيف أو محاولة الحفاظ على الاتحاد، فإن المواطنين رأوا فيهم خطراً على الحريات التي بدأوا يتمتّعون بها. كان يلتسن هو الفائز الأبرز في هذه المواجهة وبالتالي فكرة روسيا المستقلة، أمّا السلطة المركزيّة فكانت الخاسر الأكبر. أصبحت كل الجمهوريّات تتوق إلى الخروج والاستقلال، حتّى الروس الذين كانوا يُتهمون بأنهم رافعة الحزب الشيوعي والحكم السوفياتي نشدوا الاستقلال.
وبعدما أصبحت هذه الأمور حقيقة واقعة لا مجال لتفاديها، توافد رؤساء الجمهوريّات السلافية في الاتحاد السوفياتي، أي روسيا، أوكرانيا وبيلاروسيا في 8 كانون الأول (ديسمبر) للاجتماع في بيلافيجسكايا بوتشا في بيلاروسيا للتوقيع على حل الاتحاد السوفياتي وإنشاء مجموعة الدول المستقلة مكانه. ربطاً بهذه الأحداث، وفي مساء 25 من كانون الأول 1991 في الساعة السابعة تحديداً بتوقيت موسكو، أعلن غورباتشوف تنحيه عن الرئاسة، ولم يكد رئيس الاتحاد السوفياتي يكمل كلمته حتّى كان العلم السوفياتي الذي بقي يرفرف 69 سنة على الكرملين يُنزل، ليرفع مكانه العلم الروسي بألوانه الثلاثة. هكذا اختفى، إن صحّ القول، الاتحاد السوفياتي رسمياً من الوجود، وولدت 15 جمهورية مستقلة جديدة على الخريطة العالميّة. بلا حرب أهلية روسياً، كان الاتحاد السوفياتي وريث الامبراطوريّة الروسيّة، حمل معه مجدها ومآسيها، شعوبها وأديانها، وعظمتها العالميّة. وروسيا في صورتها الجديدة خسارة لكل ما تمّ تحقيقه حتّى ذاك التاريخ، لقد تراجعت حدودها إلى ما كانت عليه في القرن السابع عشر، أكثر من 30 مليون روسي وجدوا أنفسهم خارج الاتحاد الروسي الجديد، لكن في أراض لطالما كانت موطناً للروس أباً عن جدّ. القرم لم يعد أرضاً روسية، فقط لأن خروتشوف قرر في أحد الأيّام أن ينقل شبه الجزيرة من التبعيّة الإداريّة للجمهوريّة الروسيّة السوفياتيّة إلى الجمهوريّة الأوكرانيّة السوفياتية، في وقت لم يكن أحد ليتخيّل ما يحمله المستقبل. إذاً، انهيار الاتحاد السوفياتي كان بالدرجة الأولى مأساة بل كارثة للروس لأنه، عدا الاستقلال، فإنّ الذي حصل عنى خسارة كبيرة للتاريخ الروسي الذي كان الاتحاد السوفياتي استمراراً له.
وفي الخلاصة، الانهيار كان حتمياً، كل الإشارات كانت تدّل إلى حصوله، والأمر ليس مؤامرة غربية . طبعاً لقد كانت الولايات المتّحدة عدوة «امبراطوريّة الشرّ»، وعليه كانت تفعل كل ما في وسعها للقضاء عليه، هذا لا يعني أن الشيوعيين الذين وجدوا أنفسهم في الحكم في منتصف الثمانينات كانوا عملاء السي آي إي، لأن ذلك من شأنه أن يتفّه كامل النظام السياسي للاتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي أيضاً. لقد جاء الوقت ووصل شخص تغييري إلى مركز الحكم، مثلما كان ألكسندر دوبتشك أميناً عاماً للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، ومطلق الإصلاحات التي أدّت إلى «ربيع براغ»، هكذا كان غورباتشوف الذي لم يرغب يوماً في انهيار الاتحاد.
الأهم اليوم، انه تمّ تفادي نشوب حرب أهليّة شاملة على أراضي الاتحاد السوفياتيّ مثلما حصل عشيّة تفكك يوغوسلافيا، وهو أمر ما كانت لتحمد عقباه أبداً، صحيح أن الانهيار رافقته حروب محدودة هنا وهناك لكنها لا ترقى إلى الاحتمالات المأسوية التي كان يمكن أن تحصل. العالم نجا من ذلك لأسباب كثيرة منها الظرف الذي جمع الطبقات الحاكمة في الجمهوريّات السوفياتيّة، أي السعي الجماعي إلى الاستقلال والانتهاء بسرعة من النظام السابق. * أكاديمي لبناني مقيم في موسكو
|
|
2811 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|