جواد غسال
ما أن شنفت آذاني بعض الرسائل والبيانات تعلن الحكم الذاتي في سوس ثم بعدها في الريف، حتى تناسلت تلك الأسئلة التي حاول أحد الزملاء الصحافيين في الجزائر الإجابة عنها، وركب صهوة فضوله إلى منطقة "القبايل" الجزائرية بحثا لها عن ردود لا تقبل السطحية... فكثيرا ما تتحول الإشاعة إلى ما يشبه التواطؤ الجمعي على صناعة صورة وهمية عن مجتمع ما، او مجموعة بشرية بعينها...
فالصحافي الجزائري لم يستسغ ما قيل عن منطقة "القبايل" من جنوح أهلها إلى الديانة النصرانية، وعدائهم للإسلام والمسلمين، وفق ما تسوقه الآلة الإعلامية للحركة الأمازيغية، معلنة "بداية التحرر القادم من المنطقة المحررة ضد المسلمين الغزاة"، ما دفعه إلى الانتقال في رحلة استكشافية بدأت بالخوف وانتهت بنشوة المعرفة، حين باغتته المنطقة بأصلها ومساجدها وأهلها، والإسم "محند" الذي ينتشر في كل بيت (الإسم المعدل أمازيغيا لاسم محمد).
لم تتوقف "نشوة النصر" تلك التي يستشعرها المنتمون إلى الحركة الأمازيغية بالمغرب، ما دفعهم إلى استنساخ التجربة، بإعلان رفع "العلم الأمازيغي" في جبال سوس، لكنها استعصت ورفض صخرها الإنصياع للتجزئة، فرفع في أعالي الريف بحثا عن موطئ قدم... هل يقبل عبد الكريم الخطابي أن ترفع على قبره ؟ هذا الجهبد الذي ظلمته الأقلام وهي تغرس بعينها الواحدة في جسده، تريده ثائرا أحيانا، مجاهدا من أجل الريف فقط أخرى، ثم صاحب البحث عن السلطان... لم يبرزوا الخطابي رجلا من أجل الوطن والدين... لماذا لم يكتب الخطابي عن أية أفكار انفصالية لهذا الوطن وهو الذي يمكن له ذلك في المنفى ؟... ما كتبه الخطابي رسائل في الحكم بالعدل إلى محمد الخامس، ثم إلى الحسن الثاني...
أما لو وجد بعض من بني جلدتنا وأهلنا طريقا إلى إعادة اغتيال المختار السوسي لفعلوا، ولرسموا لذلك ووضعوا حدا لسيله العرم، ولو وجدوا مسارا إلى الإقرار بمنطقهم وبرهانهم ودلائلهم بجناية تلصق بأهله وعشيرته والجغرافيا التي كان يقطن فيها وينطلق منها إشعاعه، لأعلنوا فصلها، وتبرؤوا مما حبلت به، واستعروا منه ومنها، وهم عمليا وفي الواقع يفعلون، بإرادة قطع دابر كل ما له علاقة بالعلامة السوسي، واعتباره كما يعتبرون غيره من الذين "ظلوا عن الطريق القويم والمسار المستقيم الذي رسمته الأمازيغية".
وعن أمتالهم يرد المختار السوسي بقوة وتحدي :" ويعلم الله لو قدر لي أن أكون ابن تافيلالت أو درعة أو الريف او جبالة أو الأطلس أو تادلة أو دكالة، لرأيت الواجب علي أن أقوم بمثل هذا العمل نفسه، لتلك الناحبة التي تنبتُ نبعتي فيها، ذلك أنني من الذين يرون المغرب جزءا لا يتجزأ..."( مقدمة كتاب سوس العالمة)... بقي السوسي والخطابي وموحا وحمو الزياني ... غصة في كل حلق يحلم برئاسة "الدولة الموعودة"... خاصة وأن الحركة الأمازيغية تحتاج إلى رموز تاريخيين في ظل غياب الإجماع على "رموز النضال" الحاليين ، ما جعل العودة إلى المجاهدين موضع حيرة، بين الأخذ بالكل والاستغناء عن الأجزاء... وبين استرجاع رموز ما قبل الفتح الإسلامي مثل داهيا وماسينيسا...
حاولت في رحلاتي المكوكية بين سلاسل وأركان هذا الوطن البحث عن مكان "الحكم الذاتي في الريف وسوس، وعن "مناهضي العرب والعربية" و"أعداء الإسلام"، سيرا على نهج زميلي الجزائري، وإن تباينت بيننا تفاصيل المسألة، بحثث فلم أجد سوى مساجد يعمرها "محلقي الرؤوس، آكلي الكسكس، لابسي البرنس" (كما يطلق عليهم محمد شفيق في كتابه 33 قرنا من التاريخ الأمازيغي)، وكل بيت تدخله يقابلك كرم لو حضره حاتم الطائي لاستنقص من كرمه، واسم "محماد" يتكرر في كل عائلة ويوطنه الأب في قلب الإبن...ومحماد الدمسيري ورسائله تعلو صوامع الأطلس بجانب الحاج بلعيد، تشرح وأغانيهم مجمل القيم الروحية للدين الحنيف.
رحل "محماد"(كما تنطق) الدمسيري وبقيت أغانيه ترفرف في سماءات الأمازيغ:
أدانغ إسمد ربي الشور إلا ارجاغاك زوراغ
( يسر الله أمري فرجائي أن أزور)
إو أنبي نغ رسول الله أنغ إسمد واوال
(نبينا الرسول يستقيم حالي)
إلا ارجاغا لمدينة ريغ أسد أجادغ المال
(شوقي إلى المدينة سأخذ العُدة)
نكرو غطياراكاغ ارجاغنبي ناغ
( أمتطي الجو مدفوعا بشوق النبي)
إما البابور إكوت الخوف نس إباعد الحال
(أما البحر فمخوف والشقة بعيدة)
فبكلمة
إنها الهوة بين "محمد" و"محماد" التي يتوهمها خطاب يتبجح بكونه يتقدم القضية، والأصل أن الأمازيغية يمكن أن تكسب مكانتها دون خلق أعداء في مختلف الإتجاهات، وتهتم بعمق التراث والحضارة التي تغرس جذورها في التاريخ، عوض الاقتيات على القشور.