أطلق عليه الأتراك العثمانيون لقب: «ياووز» أي : «القاطع»، الذي استحقه لمضاء عزمه وشراسته في ميادين القتال، ولانقلابه على أبيه السلطان: «بايزيد الثاني» وملاحقته لإخوته وابنائهم وفتكه بمن ظفر به منهم.
لم يكن ثمة بدٌّ من هذا الصراع العائلي الدموي على السلطة بالنسبة للأمير المحارب سليم، الذي سيعرف باسم السلطان: «سليم الاول» أو: «غازي ياووز سلطان سليم خان أول» فبحسب ما يروى عنه، فإن:"«سجادة واحدة تكفي لمتصوفين إثنين، ولكن العالم كله لا يكفي لملكين». وهو رأي مشابه لما ينسب للخليفة: «مروان بن الحكم» - المؤسس الثاني للدولة الأموية- الذي قال عن السُلطة بأنها أمر «ما التقى فيه فحلان إلا انتطحا».
في العام 1512 للميلاد تولى"سليم" سدة السلطنة العثمانية مدعوماً من قادة الجيش الإنكشاري- سيف العثمانيين الضارب وقتها- ليشرع في تدشين مسار جديد لفتوحاتها المظفرة التي كانت تتجه من قبل شمالاً وغرباً ضد الممالك والبلدان الاوروبية، ويباشر الحروب في الشرق: ضد الفرس، وفي الجنوب: ضد المماليك، وهو ما مكنه من توسيع رقعة السلطنة الصاعدة، التي كان جده الشهير:"السلطان محمد الفاتح" قد رسَّخ قوتها بفتح حاضرة الإمبراطورية البيزنطية التاريخية المنيعة:" القسطنطينية" في العام 1453.
وهكذا، ومنذ العام 1517، وإثر هزيمة "المماليك" في معركتي:"مرج دابق" و"الريدانية"على التوالي، دخلت أقاليم الشام ومصر والحجاز- ثم العراق- في حيازة السلطنة العثمانية. وقد ظل حكمها على هذه الأقاليم قائماً- بشكل فعلي أو صوري- لأربع مئة عام امتدت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في سنة 1918.
ورغم المساندة والحماية التي قدمتها السلطنة العثمانية في عهدها الأول لهذه الأقاليم في مواجهة أطماع وغزوات البرتغاليين والصفويين، إلا ان سيطرتها عليها أدت إلى إلحاقها كمناطق طرفية تابعة لها، ففقدت بذلك مركزها الخاص، المستقل والمحوري، الذي حافظ عليه المماليك كما ورثوه عن الأيوبيين، ودافعوا عنه بصدهم للغزو المغولي وتصفيتهم لما تبقى من إمارات الفرنجة، وصانوه طوال فترة حكمهم بالرغم من كونهم طبقة عسكرية وافدة متغلبة على البلاد.
هذه التبعية الكلية للمركز العثماني في القسطنطينية، موصولة بما سبقها بقليل، أو تزامن معها: سقوط مملكة "غرناطة" الأندلسية في العام 1492، والتحول الكبير في مسار ومحطات التجارة الدولية عن طريقي البحرين الأبيض والأحمر، إثر اكتشاف طريق "رأس الرجاء الصالح" و"العالم الجديد"، هي المسؤولة عن حالة الانحطاط والتخلف الحضاري المريعة التي حلت بهذه الأقاليم، وآلت من ثم إلى وقوعها بسهولة- مع غيرها من الأقاليم: كسواحل الخليج وشمال افريقيا- في أيدي الغزاة البرتغاليين والهولنديين والاسبان والانجليز والفرنسيين.
فلتعزيز هذه التبعية المجحفة وإدامتها، عملت السلطنة العثمانية- وبشكل خاص بعد عهد السلطان القدير:"سليمان القانوني"- على اهمال هذه الأقاليم من الرعاية اللازمة، وحرمانها من التنمية والتطوير الضروريين، واقصاء ابنائها- وبخاصة العرب- عن شغل المواقع المهمة في الدولة: السياسية والعسكرية والإدارية، وقاومت نزعات ومحاولات الإصلاح والتجديد والاستقلال الداخلي التي ظهرت فيها، وحصرت دورها في جباية المال بشتى الطرق وارساله للسلطنة، دونما أي التفات لحاجاتها وحاجات سكانها، سوى في حالات استثائية محدودة ومتقطعة بادر إلى القيام بها ولاةٌ ذوو ميول اصلاحية.
ليس من حقنا بطبيعة الحال، أن نحكم على الماضي وفق مقاييس الحاضر، ولا أن نستدعي التاريخ لنلقي عليه دروساً معاصرة ليس بوسعه استيعابها! لكن ما يمكننا- ويجب علينا- عمله، هو إعادة قراءته وتدبره باستمرار كي لا نقع في الخطأ نفسه مرتين. فإذا كان العثمانيون القدامى الذين غيَّبهم التاريخ وصاروا في ذمته، قد تسببوا لبلادنا وأجدادنا بما تسببوا به- رغم أنهم كانوا مستقلين يعملون لمصالحهم الخاصة كما فهموها، فلنا أن نتحسب كثيراً لما يمكن أن يحل بنا على أيدي المعاصرين ممن يقولون بأنهم "العثمانيون الجدد". فهم يحتاجون أولاً، إلى اثبات وتأكيد استقلالهم وهم المنضوون في حلف "النيتو" الامبريالي، ويحتاجون ثانياً، إلى اثبات وتأكيد حسن جيرتهم ونواياهم، وأنهم لا يضمرون لنا مطامع توسعية خفية، ولا يريدون إلحاق بلادنا بهم كما فعل"السلطان سليم الاول: ياووز"، وهو ما نرتاب فيه.
أما ما يحتاجه العرب، فهو اطلاق حريتهم، وإنجاز تحررهم من الإحتلال، والتخلص من هيمنة الآخرين والتبعية لهم أيَّاً كانوا، وتجديد أنظمتهم، وتصفية وتجاوز حالتي: التخلف والتجزئة المقيتتين، استناداً إلى قواهم الذاتية الخاصة المستقلة فحسب، ووفقاً لمصالح ومطامح شعوبهم. فبهذا فقط، يمكنهم فرض وجودهم على الخريطة العالمية، وكسب احترام الآخرين وتعاونهم من موقع الند، وردعهم ومقاومتهم عند الضرورة.
ما لنا وللسلطان "سليم الأول ياووز"؟
ذاك ولَّى زمانه، بما له وما عليه..
والباقي، هو ما أوصانا به مثلٌ قديم:
"ما بيحرث الأرض غير عجولها".
ديوان العرب:بسام الهلسة