عندما سمعت أن رشيد غلام مغني العدل والإحسان يتهم المخابرات المغربية بسرقة 5500 يورو من حقيبته الشخصية، قلت لنفسي إن “المخابرات ديالنا مسالية راسها”. فهي على حساب هذا الشاب الذي لم يعد شابا لا تقوم بأي شيء آخر في المغرب سوى مراقبة تحركاته وسكناته. ذلك أنها هي التي “لفقت” له في وقت سابق حسب زعمه قصة الفتاة التي وجد نفسه قربها في سرير واحد بالجديدة، وهي اليوم التي “اقترضت” منه هذا المبلغ بالعملة الصعبة الذي عاد به من الجزائر دون أن يقول لنا بم يتعلق الأمر بالتحديد، وما حكاية هاته الملايين الخمسة التي تقارب الستة التي عاد بها من عند الجيران، وهل يتعلق الأمر ب”شي فتوح الرحبة” مثلما يقول كناوة عن المال الذي يعطى قبل بدء الحضرة؟ أم أن الأمر له علاقة بعربون تسلمه رشيد لإحياء حفلة لأحد الإخوان في بلد بوتفليقة والفيس؟ أم أن الأمر مجرد هدية نقدية تبرع بها أحدهم عليه؟ أم أنه أحيا سهرة هناك وعاد من البلد الجار بمبلغه مؤدى عنه بالعملة الصعبة مما يلوم عليه الإخوان هنا المغرب كلما استدعى فنانا وأدى له باليورو أو الدولار، ولا يجدون أي مشكل في أن يقوموا بالمثل مع الدول الأخرى؟
ماعلينا، ولسنا على كل حال ممن “يحنززون” في رزق الآخرين كثيرا، بل تجدنا على الدوام نردد “اللهم لاحسد”، ونريد للآخرين، كل الآخرين الخير ولا شيء سواه. سوى أننا مع حالة رشيدنا الوطني، أو لنقل رشيدنا العدلاوي (لأن الانتماء للجماعة مسبق لديه على الانتماء للوطن) نجد أنفسنا في قلب مشكلة حقيقية قوامها السؤال اللابد منه: واش رشيد فنان ولا مناضل؟
في الحقيقة الجواب ملتبس بعض الشيء. رشيد لديه صوت رخيم. منذ أن كان يغني في البارات والكباريهات، كان الموتشو، وهذا هو اسمه الحقيقي قبل أن ينعم عليه الشيخ عبد السلام ياسين بلقب “غلام” المثير لكل أنواع التفاؤل في المغرب، خصوصا في مراكش والنواحي، قادرا على أن يسحر الناس بالآهات والعبرات والسكنات والهمسات واللمسات مثلما تقول الأغنية الفاحشة، أصلح الله حالها وهداها لما فيه خير البلاد والعباد. من هذه الناحية “ما عندنا ما نقولو”، ونحن أناس من أنصار شعار ّهضرو فينا وآجيو علينا الشهير”. ولعل المرور المتكرر لرشيد من دار الأوبرا المصرية التي لا تفتح أبوابها إلا للأصوات القادرة على التألق، خير دليل على الهامة العليا للغلام من الناحية الصوتية، وعلى تميزه الذي كان يمكن أن يكون أكبر لو أنه تفرغ لفنه (الشيء الوحيد الذي يتقنعه) وترك عنه بقية “اللمم”.
لكن رشيدا غير مقتنع بهذا الأمر، وهو يتصور _وهذا حقه على كل حال_ أنه من اللازم عليه أن يتحول بفنه من الأداء الأوبرالي الجميل الذي يمكن أن يتقنه وأن يحقق حوله أكبر قدر من الإجماع لدى الجمهور العادي إلى صفة أخرى أحب إلى قلبه هي صفة “مغني الجماعة”. وهنا بالتحديد، مادمنا في المجال الفني، “كيبكي فويتح الله يرحمو”، ويقول “أومالولو”. هذه الصفة الثانية لا تحقق الإجماع إلا لدى أنصار الجماعة، ولسنا منهم على كل حال لحسن حظنا أو لسوئه الله أعلم. ومعنا في الأمر ذاته عدد عديد من المغاربة ممن يفضلون ألا يختلط الفن بالسياسة هذا الاختلاط الذي يصل حدود الزواج الحرام، أو السفاح الذي ينجب مواليد نعجز عن نسبتهم لأي نسب صريح وواضح.
اليوم عندما يغني غلام، لا تستطيع أن تقول “الله” من قلبك ترنما واستحسانا للنغم، لأنك تخشى إن قلت “الله” أن يصيح قربك مناصروه “أكبر” وتجد نفسك في قلب مظاهرة عدلاوية غير مرخص لها، خصوصا بعد أن فقدت الجماعة أو أفقدت نفسها القدرة على الخروج السلمي للشارع عبر حركة 20 فبراير التي منحتها التدبير المفوض للخرجات الأسبوعية سابقا، قبل أن تفك الجماعة من جانب واحد هذا العقد الذي اعتبرت أنه لم يعد قادرا على أن يجلب لها المزيد من الأرباح، ذاهبة لتبحث عن عقد تدبير مفوض آخر في رعاية التحركات الاحتجاجية القطاعية، “ياكما عالله وعسى يجيب ربي التيسير هاد المرة”.
هنا بالتحديد لب الإشكال. نحن لا نستطيع سواء شئنا ذلك أو أبيناه أن نقرأ فنيا الرجل، وهو في هذه المسألة يظلم نفسه أكثر من ظلمه للآخرين. فهو يحرم جمهورا كبيرا من أن يستمع إليه في الشيء الوحيد الذي يتقنه أي الغناء، ويصر على الاعتداء على مجال لا علاقة له به لا من قريب ولا من بعيد، هو السياسة، أو للتحديد أكثر هو اتهام المخابرات كل مرة بأنها تدبر له الملفات تلو الملفات، وأنها تحمل الفتيات من الدار البيضاء حتى الجديدة لكي تضعهن قربه في السرير عرايا، أو تفتح الأقفال الحديدية لحقيبة ملابسه لكي تأخذ مبلغ 5500 يورو نسي أن يدخله بالطرق القانونية والمشروعة في البلد، بأن يعلن عنه قبل الصعود إلى الطائرة، ويؤدي الرسم الموازي له ويضعه في جيبه ويرتاح مثلما يفعل خلق الله العاديون.
لكن هل رشيد من خلق الله العاديين حقا؟
في الحقيقة لا. هو عدلاوي، والإخوة من أنصار هاته الجماعة يعتبرون أنفسهم هذه الأيام الفئة الناجية من كل شيء، التي أخرجوا منها حتى أهل العدالة والتنمية بعد أن دخلوا الحكومة. أليس هو من قال إن لحية بنكيران لا تستطيع أن تحجب بثور وجه المخزن القبيحة؟
بلى، لذلك دعونا نتفرج عليهم قليلا في انتظار أن يتضح أمر كل هاته الملفات، وكل هاته الفتيات العرايا، وكل هاته الملايين القادمة من “بلاد البراني”، وكل ما تبقى من حكايا كل هؤلاء الغلمان.
لمختار لغزيوي